ماكانت تبديه من نشاط في عملها لم يكن يتناسب تماما مع سنها وقد بلغت الشيخوخة، ولكنه كان يتناسب مع فيض محبتها، وشلالات عشقها، كم ينهزم تراكم السنين أمام بساتين الحب الفواحة، ظلت تقضي صباحها أمام البيت الريفي العتيق، تعيد ترتيب الأشياء، تنشط بين الحيطان الحجرية، والأزهار وأشجار الزينة، يدخل ابنها الشاب فجأة وقد ظهر الغضب على ملامحه، ترفع رأسها إليه. -جئت؟ -نعم جئت، جئت أبحث عنك. -أراك غاضبا ولدي. -ولكن أماه هذا غير لائق، غير لائق. يتحسس الغبار فيعطس، ينفض ثيابه مما توهم أنه علق به، تشير إلى مقعد خشبي مصنوع من جذع شجرة. -اقعد اقعد، خذ قسطا من الراحة، أراك متعبا. يبتسم في سخرية ويضع مفاتيح سيارته في جيبه قائلا: -متعب؟ عجيب والله، أتتهمين شابا مثلي بالتعب، وتزعمين أنك قادرة على ما تقومين به، شيخوختك تقتضي أن تستريحي. تأتي بفأس حادة، ثم تدحرج جذعا كبيرة، تركنه إلى الجدار، يسرع إليها. -عيب أماه ما تفعلين عيب، أنت مسنة الآن، ويجب أن تستريحي. تترك ما في يدها وتنظر إليه بريبة. -تشفق علي ياهذا، أم تخجل مني؟ ينهض إليها، يمسك بيدها. -حاشا أماه. -أعرف أيها الوجيه، يا صاحب الثراء، أنك لا ترغب في أن تكون أمك مجرد فلاحة، أعرف أنه يزعجك هذا أمام الطبقة التي تنتمي إليها. -لا أماه، لا يذهب بك الظن بعيدا، أريد راحتك. -راحتي هنا، قلتها لك ألف مرة راحتي هنا. -ولمن بنيت أنا ذلك القصر المشيد؟ -لك ولزوجتك وأولادك. -نحن الأربعة يكفينا جناح فيه، وما تبقى تسكنه العفاريت؟ حدائقه فسيحة، ومياهه جارية، وفيه لك كل المتعة والراحة. -متعتي وراحتي هنا ولدي. يبتسم ساخرا، يطوقها بحنان: -لا تعاندي، يجب أن تذهبي معي، كيف تكون راحتك في هذا الخراب؟ -خراب؟؟ تبتسم بسخرية وهي تقلب عينيها في المكان _هذه جنتي، هذه جنتي، في هذا البيت القصر ولدت ونشأت، هنا كنت أدرج وأبكي وأضحك، هنا طاردت فراشات أحلامي، ونسجت على نولها فساتين آمالي. ينظر إليها بحيرة. -أحلام.. آمال. تضحك وهي تقلب نظرها في المكان ثم تركزه على الباب. -نعم، كان جدك -رحمه الله- حين يسمع صياح الدجاج وقد طاردتُه كأنما أخوض معه معركة حامية الوطيس، كان يخرج عند الباب دون أن يكمل قهوة المساء، يقف عند الباب. تقوم بتقليده. -يلوح بخيزرانه وعيناه متوهجتان: أين أنت أيتها العفريتة، سأكسر عظامك؟ ولن أكون بعيدة، اختبئ صامتة خلف شجرة الورد، أضع إصبعي على أنفي قائلة للدجاج بصوت منخفض: اششش يقينا كان يعرف مكان وجودي. تضحك عميقا. -رحمك الله والدي، كان حنونا لطيفا. هل تدري كيف عرفت أنه كان يعلم مكان اختبائي؟ -كيف؟ -حين يلقاني مساء يضمني إليه، ويقبلني حتى يجرحني شارباه، وهو يقول: ما أحلاك أميرتي العفريتة، وليلا لا ينام في حضنه إلا أنا، سأريك العش الذي كنا ننام فيه. تجره من يده فيمتنع. -لا أماه أرجوك، هيا نذهب، القصر ينتظرك، سنزور هذه الأماكن من حين لآخر. تندفع نحو الشجرة، تمسد جذعها بحنان. -هنا تحتها كنت ألعب الغميضة، أغمض عيني عندها وأعد.. أعد.. أعد.. حتى أتعب، وحين افتحهما وألتفت أجد الأشرار كلهم خلفي، أقصد إخوتي وأصدقائي، يصيحون فيّ صيحة واحدة، ثم نغرق في الضحك. -لكن هذه الشجرة هرمت. يمد بصره إلى أعلاها، تتأمل الجذع جيدا، وقد نقش عليه قلب وحرفان. -هنا بدأت رحلة الحب مع والدك، وهنا تعاهدنا على الوفاء، انظر.. انظر ذي آثارنا. يجرها بعيدا، يحاول أن يسحبها إلى السيارة، تنفلت منه، تمد ذراعها بعيدا. -هناك مقبرة، هل تعرفها؟ -لا لا، أعرفها، أعرفها، لا أحب أن أعرف الموتى. -كثيرا ما أزورها ليلا، وأجلس بين القبور. يضطرب في مكانه ويتغشاه الخوف. -ماذا قلت. تواصل كالحالمة. -أجلس بينهم، أحكي لهم، وأسمع منهم، أمي أبي، أبوك، أهلي وأصدقائي، أسلم عليهم، أذكرهم بأفراحنا ودموعنا، أنقل إليهم ما جد في حياة الناس، ما أروعهم، ينصتون إلي باهتمام. تلتفت وتنطلق باتجاه المقبرة وقد غربت الشمس، يصيح فيها الابن -أمّا، أمّا، أمّا،.................... يظل يصيح وهو يتبعها، توغل في العتمة دون أن ترد عليه حتى يختفيان.