و في هذا السياق يمكن القول أن الوضع اللغوي في الجزائر معقد و يحتاج إلى دراسة معمقة، بغية إيجاد الحلول المثلى لتجاوز الأزمات التي تعرضت لها الجزائر من قبل وقد تتعرض لها مستقبلا. يسجل الدارسون و الباحثون في الحقل اللغوي أن الجزائر بحكم تاريخها الطويل وجغرافيتها المنفتحة على العديد من المجالات اللغوية والثقافية: العالم العربي و العالم الإفريقي و العالم المتوسطي، تتميز بتوفرها على العديد من اللغات التي تتعايش بشكل أو بآخر ويتمثل ذلك في تواجد الثقافة و اللغة الأمازيغية بمختلف تنوعاتها واللغة العربية التي تعبر عن مرحلة حاسمة في تبني سكان شمال إفريقيا اللغة العربية والدين الإسلامي، هذا إلى جانب تواجد اللغة الفرنسية التي فرضت فرضا على الجزائريين في الفترة الاستعمارية.ولعل التعايش بين هذه اللغات والثقافات، لم يكن بسيطا بل كان معقدا، تتخلله فترات هدوء وفترات نزاع وصراع حادين. فالسوق اللساني في الجزائر يتوزع بين اللغة العربية، اللغة الوطنية والرسمية الأولى في الجزائر و هي لغة الكتابة والمعرفة في المدرسة و في الإعلام وفي الإدارة، واللغة الفرنسية التي تؤدي الوظائف نفسها و بخاصة في أهم المؤسسات الاقتصادية و البنوك وتدرس في التخصصات العلمية بالجامعات والمدارس العليا، هذا إلى جانب اللغة الأمازيغية، اللغة الوطنية الثانية و التي لا تزال تبحث عن طريق لها، و هي اللغة التواصل اليومي في العديد من مناطق الوطن و بخاصة في منطقة القبائل، هذا دون أن ننسى ما تؤديه اللهجات المحلية من وظائف في مجال التعاملات الاجتماعية. ولعل هذا التواجد المكثف لجميع هذه اللغات في الجزائر قد يثير العديد من المسائل التي تتجلى في صراع لغوي بين المعربين و المتفرنسين ومعهم مجموعة كبيرة من الناطقين بالأمازيغية. ولعل لهذا الصراع أسباب وجذور تاريخية تعود إلى الحركة الوطنية سنة 1949 حيث وقع اختلاف حول المحددات الهوياتية للوطن بين دعاة البعد الأمازيغي و بين دعاة البعد العربي و الإسلامي الحصري للهوية الجزائرية، مما أدى إلى نشوب أزمة سياسية كبيرة داخل حزب الشعب الجزائري/ و حركة انتصار الحريات الديمقراطية. و ستلقي هذه الأزمة بظلالها على الحركة الوطنية بمجملها، و إن خف هذا الصراع أثناء الثورة التحريرية، لكنه سيستمر في مرحلة الاستقلال و بأشكال مختلفة و بخاصة مع بداية الثمانينيات في بلاد القبائل، حيث تصاعدت المطالبة بالاعتراف بالهوية و باللغة الأمازيغية. و هو الأمر الذي يجعلنا نلاحظ أن الجزائريين يملكون عدة لعات يتعاملون بها في حياتهم اليومية و العملية و هي: اللغة العربية الدارجة و الأمازيغية واللغة العربية الفصيحة واللغة الفرنسية، و تعرف هذه اللغات فيما بينها «تعايشا صعبا مطبوعا بالتنافس و هو الصراع الذي يجمع بين اللغتين المعياريتين المهيمنتين (الأولى بحكم دسترتها القانونية بوصفها اللغة الرسمية و الأخرى بوصفها لغة أجنبية لكنها تملك شرعية بفضل تفوقها في الحياة الاقتصادية)» . كما تواجه اللهجات الشعبية احتقارا كبيرا من قبل العديد من الفاعلين في المجال العلمي و الثقافي و التربوي، و لا يتوقف الأمر عند المسألة اللغوية في الجزائر، بل يتعداه إلى الثقافة المرتبطة، بطبيعة الحال، بالجوانب اللغوية. الثقافة العالمة و الثقافة الشعبية: إن معالجة هذه المسألة المرتبطة بالثقافة في شكلها النخبوي والشعبي، تتطلب إقامة جسور تواصل بينهما، بغية تمتين أواصر التفاعل و التبادل بينها، فالثقافة العالمة التي تضم الآداب والفلسفة و التاريخ و العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى والمكتوبة باللغة الفصيحة، وهي من إنتاج نخبة المجتمع هي التي تسترعي الاهتمام الكبير في عدة مجالات ومنها المجال المدرسي و الجامعي،ومع ذلك نسجل في الفترة الأخيرة، عناية مهمة بالثقافة الشعبية من قبل الدارسين والمثقفين و المهتمين، إذ تشمل الثقافة الشعبية الحكايات والأساطير و الملاحم ومختلف أشكال التعبير الشعرية الشعبية والأمثال والحكم والألغاز و فنون الطبخ واللباس و الأغاني و الممارسات الاحتفالية وغيرها من أشكال التلفظ الفني و الممارسات الثقافية. وتتميز هذه الثقافة الشعبية باعتمادها على الاسترسال والاستذكار وعلى المشافهة و على غياب المؤلف في غالب الأحيان، مما يمنح لرواتها حرية التصرف بالإضافة أو النقصان. ولعل ما يميز الثقافة الشعبية في الجزائر كونها تغرق في المحلية، وفي كثير من الأحيان، مما يجعلها تعبر عن الخلفية الثقافية للمناطق المختلفة وتبرز القيم و التجارب المشتركة بين الأفراد الدين يعيشون في هذه التجمعات السكنية و تدفع بهم إلى التضامن والمحافظة على التماسك العائلي وانسجام الجماعة، ولعل أهمية هذه الثقافة الشعبية في الحفاظ على هوية سكان الجزائر الأصليين في الفترة الاستعمارية لا يمكن تجاهلها. وعليه يمكن القول أن الثقافة الشعبية في الجزائر كغيرها من الثقافات الشعبية تعني «الثقافات التي تتعارض في منطقها ولغتها وصورها ومحاورها ومراجعها ومقاصدها مع الثقافة العالمة أو الرسمية. وهي كل الثقافات التي تتكلم بلغة العوام وتعكس بناهم الذهنية ورؤيتهم للعالم»،ومن هنا جاء الاختلاف بين هاتين الثقافتين الذي يكمن في كيفيات التعبير والإنتاج وأشكال تبليغ المضامين و الخطابات السردية. و لتحقيق غاية التواصل بين الثقافتين، أي الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، لا بد من جمع و تبويب و دراسة الثقافة الشعبية و الكشف عن أشكالها ومضامينها من خلال الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية والنفسية واللسانية و تحليل الخطاب، وتوظيفها في الأعمال الأدبية والفنية، مثل الرواية والمسرح والسينما وغيرها من الفنون التعبيرية، و التعريف بها عبر وسائل الإعلام و ضمن الفضاءات الثقافية والتربوية المختلفة. و في هذا الصدد يشير الأستاذ عبد الحميد بورايو إلى أنه قد «عرفت الثقافة الشعبية الجزائرية حالات من تواصل و تكامل مع الثقافة العالمة للمجتمع الجزائري، كما عرفت حالات قطيعة و تنافر، تبعا للمراحل التاريخية ولطبيعة الحكم السياسي الذي يكرس القطيعة عندما يكون أجنبيا، و يتميز بتعدد قنوات التواصل في فترات ظهور نظام سياسي منبثق من رحم المجتمع»،وبخاصة وأن العديد من المظاهر الثقافية هي مشتركة بين الجزائريين على غرار احتفال «يناير»، وممارسات ثقافية أخرى توارثتها الأجيال عبر تاريخ الجزائر الطويل و العريق. اللغة الأمازيغية : و الإشارة إلى احتفال «يناير» الذي تم اعتماده مؤخرا من قبل السلطات الجزائرية عيدا وطنيا، تجعلنا نمر للحديث عن اللغة الأمازيغية التي تمثل، بمختلف تنويعاتها، لغة الجزائر القديمة، التي تمتد من العصر النوميدي إلى الآن، و على الرغم مما عرفته الجزائر من تحولات تاريخية و ثقافية ولغوية، فقد صمدت هذه اللغة وبقيت لغة التعامل اليومي في عدة مناطق من الوطن: في منطقة الأوراس والشرق الجزائري (قسنطينة وباتنة وسطيف)، حيث تستعمل اللغة الشاوية، ومنطقة الجرجرة أي القبائل (تيزي أوزو وبجاية و برج بوعريريج...) حيث تستعمل القبائلية، ومنطقة الهقار و بني مزاب ،حيث تستعمل الميزابية و الترقية، وتستعمل الشلحة في بعض المناطق من الغرب الجزائري، وقد حافظت هذه الممارسات اللغوية والخطابية المتنوعة على الهوية المتميزة لسكان هذه المناطق لارتباطها بالثقافة المحلية و الشعبية وبعادات وتقاليد و تصورات المكونة للجماعة المحلية. و المعروف أن الجزائر المستقلة لم تعتن بشكل كبير بهذه الثقافات المحلية و بلهجاتها و قد سعى الخطاب السياسي الرسمي للتركيز على الهوية العربية والإسلامية ضمن رؤية أحادية تقصي التنوعات الثقافية واللغوية الأخرى،وهو الأمر الذي تولد نوعا من التشنج الهوياتي لدى قطاع كبير من سكان هذه المناطق و بخاصة في منطقة القبائل، وتسبب ذلك في العديد من الاضطرابات الاجتماعية و الثقافية وحتى السياسية، و قد بلغت هذه الأحداث مستويات كبيرة من الخطورة في تهديد استقرار ووحدة المجتمع الجزائري.و في هذا الصدد يمكن القول،أن الفرد أو الجماعة عندما يشعر بالإقصاء أو التهميش، سواء كان ذلك الإقصاء ذي طابع سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، فسوف تتجلى لدى هذا الفرد أو تلك الجماعة، مواقف سلبية قوية وأحيانا عنيفة تجاه كل ما يمثل المؤسسة الرسمية، و لهذا تجد الجماعة «لنفسها نوعا من رد الفعل والكبرياء وتضع لنفسها حدودا تفصلها عن الآخرين بتمجيد خصوصيتها و(...) تعزل نفسها بشكل إرادي، وعليه نشهد ظواهر الإقصاء الذاتي التي تترجم غالبا على أساس تمجيد بعض خصائص الزمرة». و هنا تثمّن الجماعة المقصاة بعض المظاهر الثقافية وتوظفها بوصفها «ملجأ هوياتيا» تعتمده للتمايز عن ما تعتقد أنهم مختلفون عنها. وبهذه المواقف السلبية تجاه الآخرين تعود الجماعة، التي تعاني من الإقصاء والتهميش، إلى الأصول والمنابع «الصافية» التي تتجلى في عدة مظاهر نذكر منها: الانطواء على الذات في حالة الشعور بالتهديد الهوياتي، أو الانفتاح على الآخرين عندما يكون الاتصال بين الزمر الاجتماعية ممكنا بالاندماج والتداخل، أوالتمازج والاختلاط عندما تعيش المجموعات على فضاء واحد و منه التهجين اللغوي و الثقافي. فهيمنة مجموعة لغوية على أخرى و إقصائها لبقية المجموعات قد يؤدي إلى الشعور بالظلم و ينتج عنه التطرف والرغبة في الانفصال، و لتجاوز مثل هذه العواقب و المعضلات لا بد من تشجيع عمليات الانفتاح و التحاور والتواصل بين اللغات و الثقافات الموجودة على الأرض الواحدة. وقد تداركت الحكومة الجزائرية هذه الأمور و بادرت بتأسيس المحافظة السامية للأمازيغية بتاريخ 28 مايو 1995، و اعتبر ذلك بمثابة الخطوة الأولى نحو الاعتراف باللغة الأمازيغية، وتم الشروع في تدريس هذه اللغة منذ بداية الدخول المدرسي لتلك السنة وتكوين المكونين في هذا التخصص الجديد، وقد تبعت تلك الخطوة خطوات أخرى ذات أهمية بالغة. وللتذكير فإن منطقة القبائل لم تعرف السكينة و لم تهدأ منذ بداية الثمانينيات إلى حدود بداية الألفية الثالثة، إذ سبق وأن شهدت العديد من الأحداث والاحتجاجات التي طالبت بالاعتراف باللغة و الهوية الأمازيغية، وفي هذا السياق نشير إلى ما اصطلح على تسميته آنذاك بالربيع البربري سنة 1980، و تبعه تأسيس الحركة الثقافية البربرية وأيضا مقاطعة المدرسة أو «إضراب المحفظة» سنة 1994-1995، و أحداث سنة 2001 التي قادتها حركة «العروش». كل هذه التحركات دفعت بالدولة الجزائرية إلى تفهم الوضع و معالجته بحكمة من خلال تسجيل الهوية الأمازيغية في الدستور الجزائري إلى جانب الإسلام والعروبة. و بعد مخاض عسير و اضطرابات كبيرة أصبحت الهوية الجزائرية ثلاثية الأبعاد، من الناحية السياسية والقانونية. و بالمناسبة لا بد من الإشادة بهذه الخطوة السياسية الشجاعة، التي وضعت حدا لهذه القلاقل في منطقة القبائل و قطعت الطريق أمام الحركات التي كانت تهدد الوحدة الوطنية. أما الآن فإن الأمر يقتضي إبعاد هذه المسألة الهوياتية المتعلقة باللغة الأمازيغية عن التلاعب السياسي وعن المزايدات الإيديولوجية، والسماح لذوي الاختصاص من علماء اللغة و الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية من القيام بعملهم، و الاتفاق، و بما يخدم التلاحم الوطني و البعد الثلاثي للهوية الجزائرية ،على الاختيار الأمثل للحروف وللقواعد والمعاجم و هي عمليات ليست بسيطة وستأخذ، بلا شك، وقتا طويلا وستحتاج إلى توافق بين الفاعلين والمختصين في هذا المجال اللغوي و الثقافي... وعليه يجب التعويل على ما ستقوم به أكاديمية اللغة الأمازيغية التي تم إقرارها مؤخرا. يتبع