الدافع الخاص والتجربة الفردية في الكتابة لهما حضور عند أيّ كاتب لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه. هنالك دوما نزعة ذاتية ما توجِّهُنا نحو الميل إلى نمط كتابة على حساب آخر، وثمّة، نوعا ما، اختيار عاطفيّ يدفعنا إلى تفضيل سياق للكتابة على غيره. وقد كانت لي فرصة نشر مقالات نقدية في صحف وجرائد بالموازاة مع نشر مجموعة بحوث مُحكَّمة في مجلات علمية أكاديمية، وعلى إثر ذلك سجّلت بعض الملاحظات التي انطبعت في ذهني حول الفرق بين كتابيتين؛ بين كتابة أكاديمية لها طابع علميّ دقيق، وبين كتابة ونشر على أعمدة الصحف لها هي الأخرى ميزاتُها وطابعُها الخاص، بل لغتُها أيضا التي تنفرد بها عن الكتابة السابقة، وبمميّزات أخرى مختلفة قليلا. وبناء على هذه التجربة الذاتية أقرُّ بأنّ مساحة الكتابة التي وجدتُ فيها طابعا حميميّا أكبر هي ما نكتبه من مقالات على صفحات الجرائد وملاحقها الأدبية خلافا للنصوص والبحوث الأكاديمية التي ننشرها ضمن مجلات علمية محكّمة لغرض بحثي يتطلبه منّا أو يفرضه علينا اشتغالنا الجامعيّ وما يتبعه من مستلزمات علمية وأكاديمية. هذا الكلام لا يعني بالضرورة أنّي أصطفُّ هنا مع الدّاعين إلى التنفير من الكتابة الأكاديمية؛ ليس المقام للمفاضلة بين النوعين، ولكن في المقابل نسمع أصواتا نشازا تنطق من هنا وهناك تقلّل من شأن الكتابة في الصحف. وهنا وجب التنبيه إلى أمر والتشديد عليه، وهو أنّ الكتابة الصحفية وكتابة المقال الأدبي الصحفي هي مدرسة حقيقية لتعلّم أساليبَ وأفانينَ الكتابة وإتقانِها وتطويرِ الذات، ولها من المزايا ما لا نجدها في فضاءات أُخَر. كثير من الأدباء المحدثين تخرّجوا من هذه المدرسة، ومنهم من بدأ كاتبا صحفيّا أو مراسلا قبل ولوجه مجال الكتابة الأدبية واحترافها، فهذا "غابرييل غارسيا ماركيز" اشتغل بالصحافة مراسلا لصحف كولومبية، وأيضا "جورج أورويل" امتهن هذه المهنة واشتغل فترات زمنية مراسلا لهيئة "BBC" البريطانية العريقة، ودوّن بعض إصداراته بأسلوب التقرير الصحفي ككتاب (الحنين إلى كتالونيا)، وقبلهما أديب أمريكا الجنوبية الأوّل الأرجنتيني "خورخي لويس بورخيس" عمل فترة من حياته محرّرا صحفيا لملحق ثقافي بمجلة أرجنتينية محلية. وفي وطننا العربي أدباء كُثُر كتبوا في الصحافة ومنهم من أسّس مجلات متخصّصة مثلما فعل الأديب اللبناني "إيليا أبو ماضي" الذي أصدر مجلّة (السمير) عام 1929م للعناية بالأدب المهجري، وقبل ذلك اشتغل رئيس تحرير مجلات مختلفة وكان أوّل عمله النظامي بالإعلام المصري. ولعلّ في بدايات نهضتنا الأدبية الحديثة ارتباطا شديدا بما كان يكتبه الأدباء العرب في المشرق والمغرب على أعمدة الصحف والمجلات، ناهيك عن أنّ مرحلة التجديد الشعري العربي التي أسّس لها مجموعة شعراء معاصرين قد واكب حركتَها ظهورُ مجموعة مجلات متخصّصة أبرزها مجلة (شعر) التي نشر فيها "أدونيس" و"خليل حاوي" و"سركون بولص" و"أنسي الحاج" و"خالدة سعيد"...أشعارهم ومقالاتهم النقدية والأدبية، وأسّسها "يوسف الخال" تأثّرا بمجلة شعر الأمريكية لعزرا باوند، وكذلك مجلة (الكرمل الجديد) التي أسّسها وترأّس هيئة تحريرها الشاعر الفلسطيني الراحل "محمود درويش". ومع ذلك يبقى السؤال المطروح هنا حول ما يميّز المقال الأدبي والنقدي الصحفي عن غيره، وما المغري فيه حتى ينشر الكاتب أو الباحث في الصحف؟ في رأيي الخاصّ أرى أنّ الكتابة الصحفية مختلفة عن غيرها من وسائط الكتابة في ثلاث ميزات أساسية: أولاها ميزة النشر السريع والمواكبة. فكتابة المقال الأدبي والنقدي في الصحف تتيح لصاحبها بلورة أفكاره ونشرها بشكل سريع مقارنة بالمقال الأكاديمي، إضافة إلى ميزة المناسباتية التي تطبع المقال الصحفي في مواكبته لكلّ جديد، ولو أنّ جوهر الكتابة يتنافى في نظري وهذه المناسباتية، كون الكتابة الحقيقية وجودية إنسانية تتعالى على السياق الظرفي وعلى الراهن التاريخي المحيط بها، أو على الأقل تسعى إلى التخلّص منه. ثاني الميزات ميزة التلقّي الواسع للمقال الصحفي مقارنة مع المقال الأكاديمي. فمن ينشر في الصحف هو يتوجّه بالضرورة إلى جمهور كبير من القرّاء تنجم عنه مستويات مختلفة من التلقّي، عكس الكتابة الأكاديمية المنغلقة نوعا ما على أوساط وفئات جامعية محدودة، ولا تصل إلى مواطنَ تُدرِكها الكتابةُ الصحفية. ففي الغالب، ومع تراجع نسبة التسويق التجاري للمجلات العلمية أو انعدامها تقريبا خارج أُطُر الجامعة ومخابر البحث المشرفة على إصدارها، تبقى أعمالنا الأكاديمية حبيسة هذه الفضاءات المتعالية عن سياقها الخارجي ، لا تطَّلِعُ عليها إلا هيئات التحرير واللجان العلمية للمجلات، وبعض المهتمّين والمتخصّصين من أساتذة وطلبة. فخصوصية الجامعات العربية هي النسقية والانغلاق، وهذا ما يؤثّر على علاقتها بالمحيط الخارجي. أمّا الميزة الثالثة فهي ميزة مرتبطة بجوهر الكتابة ذاتها وما يجده المشتغل على المقال الصحفي من حرية ومساحة للتعبير عن أفكاره واختيار الشكل الأسلوبي الذي يناسبه بكل راحة، إذ الكتابة الأكاديمية كتابةٌ مُتطلِّبة يجد الباحث نفسه معها يفكّر باستمرار في رقابة فوقية ستَطَّلِعُ على مُنجَزِه وتُحكِّمه خلال اشتغاله على عمل بحثي ما، وقد تتحكّم حتّى في توجّهه الفكري أحيانا بشكل غير مباشر، الأمر الذي يدفعه خلال الكتابة إلى وضع تصوّر ذهني حول شروط المجلة التي يريد النشر فيها، وحول متطلّبات البحث الأكاديمي من توثيق دقيق لكلّ معلومة ترِد في دراسته وللمحمولات المعرفية فيها. هذا القيد سيجده كاتب المقال الصحفي متواريا نسبيّا نظرا لتوجّهه مباشرة إلى القارئ عبر وسيط واسع الانتشار هو الصحيفة، غير أنّ هذه الحرية ليست مطلقة كليّا، فالكاتب الحقيقي يرى في هذه العلاقة المباشِرة بينه وبين القارئ مسؤوليةً مضاعفة ورقابةً ما تستوجب منه العمل باستمرار حتى يكون على قدر هذه المسؤولية المعنوية المتمثّلة في فعل الكتابة.