النص الإبداعي كما نعلم جميعا هو خطاب جمالي فني قبل أن يكون مجرد نص خال من القيمة الفنية التي تميزه عن باقي الخطابات الأخرى كالخطاب الإعلامي والخطاب السياسي والخطاب الديني، وغير ذلك والكاتب المبدع في النهاية ليس خطيبا أو مناضلا أو داعية ، إنه مبدع وفنان لكن هذا لا يعني أبدا أن يخلو النص الإبداعي تماما من الرؤية أو الرؤية الاجتماعية بالمعنى السوسيولوجي ، وهذه الرؤية موجودة في أغلب النصوص الإبداعية، وإن بدرجات متفاوتة وأحيانا تتمظهر بشكل ضمني بما في ذلك تلك النصوص التي يدعي أصحابها التجريب وتفجير اللغة من الداخل. فالتعلق بأذيال التجريب في الكتابة الإبداعية عندما يتجاوز ذلك الشكل الفني الذي يتطلب بعض المهارات التجريبية التي لا بد منها لتأثيث نص إبداعي لملء ما نسيه الناص التقليدي أو فاته أو عجز عنه ضمن رؤية كانت تنتمي إلى منظومات الإبداع السابقة أو الغائبة في إحالاتها الظرفية المحكومة بشرطها التاريخي الذي انبثقت من ظلاله أي عندما يعمد المبدع باسم التجريب إلى تغييب المضمون وتجاهل عناصر* الهوية النصية * التي تشكل منها حسه الإبداعي دون وعي به ودون الوعي بأن المسافة الحضارية بيننا وبين المجتمعات الأوربية بوصفها الفضاء الثقافي المناسب للتجريب كبيرة والفجوة عميقة جدا، وأن هذه المجتمعات بعدما أنجزت ثورتها الصناعية والتكنولوجية ومهامها الحضارية انتقلت فيها الكتابة والكتابة السردية على وجه التحديد إلى مرحلة أخرى من النمو والتجريب بأن * تشيأ* فيها الإنسان وقضت على جوهره الحضارة الحديثة إن جاز لنا أن نستخدم مصطلح جورج لوكاتش* التشيؤ* الذي تحدث عنه في كتابه * التاريخ والوعي الطبقي * في الفصل الذي خصصه لما سماه * بالتشيؤ والوعي الطبقي * وفقد قيمته كإنسان وكروح وككيان، فصار الروائي يتعامل مع أبطاله بوصفهم أشياء وأدوات كباقي الأشياء الأخرى بينما نحن كمجتمعات عربية لا زلنا نستخدم الكانون والحطب و*المنسج* وغيرها من وسائل الحياة التقليدية و لم ننجز بعد شيئا ولا زلنا لم نقطع بعد شعرة معاوية مع الإنسان والمجتمع ومع أصولنا الريفية ونفكر بها ومن خلالها وهي كل ما نملك من مخيال اجتماعي لم يتأسس بعد كنص إبداعي يعبر عنا وعن خصوصياتنا الأثنية والهوياتية والثقافية في أبعادها الرمزية وهمومنا بل ويمثلنا أفضل تمثيل ... أليس ذلك غريبا حقا.... ؟ويشكل مفارقة كبرى علينا أن نعي أبعادها جيدا وأن نعرف موضع أقدامنا قبل أن نصدق الوهم أو نضع أنفسنا دون وعي منا تحت طائلة ما سماه شبنجلر * التشكل الكاذب * فأغلب الكتاب الكبار في العالم يقدمون نصوصا للقارئ تصدر عن رؤيا عميقة بالحياة والتحولات المفصلية التي تعرفها مختلف المجتمعات التي جاءوا منها فالشعر والإبداع عموما مثلما يقول أدونيس هو * تأسيس بالرؤيا * وحين يتعامل الفنان المبدع مع الفعل السياسي والتحولات السياسية والاجتماعية المفصلية في بلده ومحيطه الاجتماعي القريب كتيمة أو كمعطى إبداعي فالمفروض أن يترك مسافة فاصلة بين الموضوع وبين * أدوات عرض المادة المضمونية * بتعبير السعيد بن كراد للحفاظ على شعرة معاوية التي تشد القارئ إلى النص كخطاب إبداعي يستدعي التخييل والصورة الفنية واللغة الإبداعية ولا بأس أن يتضمن رؤية فكرية وسياسية تموقع الناص الكاتب ضمن اتجاه فكري معين لإضفاء نوع من المشروعية لتأكيد وعيه بالكتابة التي تطرح أسئلة الراهن والمصير بشكل قد يضعه أمام مسؤولياته التاريخية والحضارية . وفي هذا السياق أتصور أن الذين يتهربون من التفاعل مع العامل السياسي كمعطى إبداعي هم أنفسهم هم الذين لا يريدون إضاعة مواقعهم والقيم النفعية التي تعودوا تحصيلها باسم الإبداع المهيئون لمحاولات* الصناعة الظرفية للمتخيل الإبداعي * بتعبير الدكتورة آمنة بالعلى والتراكم الكمي للمطبوعات و النصوص كعناوين بريدية وإشهارية يستغرب القارئ الحصيف لكثرة حضورها في المشهد الثقافي العربي البائس على صعيد التتويجات المناسباتية وغيرها تفق وراءها مؤسسات لا يعنيها منه إلا يوفره لها من نصوص تصلح فقط للتوظيف الدعائي عند تشغيل آلة الرصد وفقا لما تتطلبه المناسبة أو المرحلة وهذا ليس حكما قيميا إنه مجرد رؤية هي الأخرى نسبية بالنظر لتعقد وضبابية تعامل المبدع العربي مع تيمة السياسة في النص الإبداعي الذي يبدوا أنه لا يزال ورشة مفتوحة على اللانهائي من الأسئلة الممكنة الصادمة للوعي القائم وعي المبدع ووعي القارئ معا.