تثير الارتياب والشك. إنها جامعة لكثير من الأخلاط. ما كتب من شعر ونثر فهو أدب، القصص والروايات والحكايات هي أدب، الأقسام والهيئات والمعاهد التي تدرس النصوص التي يقال عنها إنها أدبية فهي أقسام ومعاهد أدب. صارت هذه الكلمة لكثرة ما حملت خالية من المعنى أو مفضوحة المعاني. لقد أسيئ استعمالها في مجال الثقافة العربية وبعيدا عن حجج طه حسين في كتابه في الأدب الجاهلي حيث يسوق لنا اشتقاق كلمة أدب ومفهومها، فقد جمعت بين كثير من المتناقضات وصارت كلمة ذات وجوه متعددة، تارة تعني الأخلاق وتارة أخرى تفيد معنى العلم وتارة ثالثة ما يقرأ من قصص وأشعار. لا شك أن عصرا معقدا مثل عصرنا راكم الشبهة حول هذه الكلمة بخاصة لما انتشرت الكتابة عبر وسائط متعددة ودخلت هيئات بعيدة عن عالم الأدب في مجال التسويق والنشر والجوائز والهبات وغيرها. يتعلق الأمر بكلمة أدب، الكلمة العالم أو الوجود. إنها ليست شيئا محضا، بل هي عالم متعدد العناصر في هيئة متماسكة يستحيل الفصل بينها. إنها تعني النشاط الفني والجمالي القائم بذاته. الكلمة التي صارت زخما كبيرا عبر الكتابة والتداول والتلقي ثم تحولت إلى عنوان الثقافة التي تملك عناصر التأثير وقوة التحولات. ليست فقط كلمات تكتب وتنشر، بل الأدب ظاهرة عظيمة ونادرة. أي من النادر أن نحصل على ما يسمى بالأدب داخل كل ثقافة، لأن هذه الكلمة قوية الحضور في المجتمع والدولة والهيئات وأكثر حضورا في الإنسان. هذه القدرة المتحولة التي تملكها كلمة أدب تحكمها طبيعة خاصة، وهي لا تنتمي للفعل العضلي الذي نسميه الكتابة، بالمعنى الذي يفهمه السوق وعموم الكُتاب. لأن الكتابة تأتي بعد حدث الوجود، والتجربة هي أساس هذه الكلمة، وكما قال جيل دولوز ليست الرواية هي حكاية قصة حب أو موت جدة بمرض السرطان أو حالة حرب عابرة، الرواية ككتابة مظهر ثقافي يتجاوز الكاتب إلى الوجود. تتحول الكلمات إلى شخوص وحيوات وعوالم. اللغة في مثل هذه الكتابة تقوم في الحد الذي يفصل بين الكلام والصمت، وبين العقل والجنون، وبين الموت والحياة. هذا كلام نستوعبه لفيلسوف انتقل من عالم ودخل عالم الأدب وجاور الكتابة بروح متحولة ثائرة وغريبة بعيدا عن الهالات التي تحيط بالكلمة كما ذكرنا من قبل: النشر والتوزيع والجوائز والملتقيات والندوات، هذه أمور تقع على الحاشية ولا معنى لها في مقابل ما تعنيه الكلمة حينما تصير وجودا موازيا. ضاعت كلمة أدب حينما اتسعت دائرة القيم التي تحكمها، القيم التي أنتجتها السلطة والمجتمع والمؤسسات. الأدب كفاعلية يتعارض مع القيم الحدية التي تؤسس للأقواس والفواصل. إن قيم الأدب هي قيم الإنسان تتغير وتتحول لأنها تنتسب لطبيعة الأشياء في هذا الوجود. لكن المشكلة هي كيف تأسست هذه القيم التي حاصرت كلمة أدب؟ نبدأ بأسوأ هذه القيم تلك التي أنتجها النقد كسلطة ومؤسسة باسم * الجودة والرداءة*، أتساءل من موقعي: الجودة والرداءة بالقياس إلى ماذا؟ في غالب الأحيان كان النقد ينتج هذه القيم بعيدا عن مسمى الأدب مما يدل على أن فاعلية الأدب ظلت في حقيقتها غائبة عن النظر العام. والذي ساد كان يمثل تشويها لفعل الكتابة الحقيقي. المشكلة في هذه القيم أنها تقيم في ذهن الناقد وليست موجودة في موقع الأدب. الناقد هو الذي يجعل الأدب يتكلم عن نفسه (هذه حالة مثالية نادرة ولكنها موجودة ) وهذه السلطة سلطة القيم هي التي نقلت كلمة أدب إلى موقعها الخاص حيث التعميمات التي تغطي على الحقائق. لم تكتف سلطة النقد على التعمية من خلال إنتاج خطاب قيْمي بعيد عن جوهر الأدب، بل أحاطت الأدب بصورة أو بهالة غير حقيقية بدافع من معرفة واهمة. لأن التحليل يقول بأن كثيرا من الأدب الذي قاوم سلطة النقد كان يقع في جهة الرداءة، حيث أُلبِس صورة أو صورا ليست له: السرقات الشعرية، خلل النظم، هلهلة الألفاظ، بُعْدُ الاستعارة ... ولكن المقاومة العنيفة التي خاضها النص الجديد وهذا ينطبق على نصوص من الجاهلية أيضا كسّرت هذه الهالة عن طريق ثورة ضد القيم السائدة، أهمها قيمتي الجودة والرداءة. من الممكن قراءة الأدب في شكله المؤسس بعيدا عن إملاءات النقد، هناك مؤسسة خفية كانت سائدة أهم من النقد هي الرواية والشرح. كان دور بعض الشراح والرواة مهما بخاصة ما يتعلق بالشعر القديم، وأيضا كل شعر تتوفر فيه تلك الكلمات الصعبة. كان الشرح يتبنى موقفا مرآويا، يحاول أن يقرب الصورة ويجلي المعنى من دون تدخل قيمي في طبيعة الشعر الذي يشرحه. القيم النقدية هي تعبير عن قيم شرعية وأخلاقية، أتحدث عن قيم الجودة والرداءة، القوة والضعف، الجمال والقبح. هذا جزء من السلطة الأخلاقية التي كانت سائدة في أذهان النقاد، ولكن هناك حالات فردية تشبه ثورة السورياليين بدأت تنتج في حساسية جديدة وإدراك مختلف للأدب. ظاهرة ابن جني أو عبد القاهر الجرجاني مثلا حين اهتمت بالبنية: بنية الشعر أو اللغة بشكل عام ملفتة للانتباه وتعطي انطباعا بأن مدارك الشعر مختلفة ومنفتحة على المتعدد والمختلف. هناك حالات خروج عن النظام: نظام النقد أو نظام المعرفة السائد، وحالة الخروج هي تعبير عن حياة مّا ناشئة هي التي تعطي استمرارية للعناصر. أغلب النقد كان يتجه نحو التعميمات واختزال الحقائق أو المظاهر الأدبية، فهو يبحث في الشأن الأدبي بذهنية منطقية محدودة (محدودة بالقياس إلى احتمالات الدراسة ) الفائض الذي أنتجه النقد لا يمثل حالة صحية كما يعتقد الكثيرون، ولكن يكرس هيمنة المؤسسة التي تؤمن بذاتها أكثر مما تؤمن بالأدب. هذا الفائض الذي عبر عن نفسه بعناوين كثيرة * كتب السرقات، التعريفات، ونقد الكلام، والموازين، الطبقات*. هناك سؤال أساسي يتعلق بمجموع هذه الأفكار، وهو ما الذي ترتب عن مثل هذا التناول مع الأجيال اللاحقة؟ أقصد كيف انتهت إلينا كلمة أدب؟ الذي أراه هو أن السلطة والثقافة السائدة والمعرفة المهيمنة بقيت على حالها، فقط غيرت من بعض لسانها وعدلت من قامتها، ولكن الذهنية بقيت هي هي، ذهنية الهيمنة على الكتابة وتوجيه الأدب وفق قدرية مهينة بدل خلق حالة عظيمة من الكتابة تكون هي المقياس للإنسان والمجتمع والعالم الذي نعيش فيه.