رأيتها تعانق خارطة من كتان عتيق كأنها ورثتها عن أول الأجداد. تكورت مثل الجنين تشم ما تبقى من ألوان علم كمن تتحسس طعم حليب أثداء دافئة، أو من تعانق بشغف عزيزا غاب طويلا دون أمل في العودة، وعاد فجأة، إبنا أبا أما جدا زوجا عاشقا أو عشيقا... وجهها متعدد ليس له عمر، لا زمن له ولا تاريخ بالرغم من أن كل الأعمار والأزمان تكدست في مساماته، صوتها صدئ من كثرة الصداح، كان يأتي متذبذبا متقطعا عميقا كأنه آت من حفرة سحيقة من سابع أرض . لم أجد لا لغة ولا حركات ولا حتى تعابير، يمكنها أن تساعدني على رسم ابتسامة ضالة على ملامحي المرتبكة، حاولت لمس يدها لخلق نوع من الألفة، لمحت خاتما في اليد اليسرى، سحبتها بقوة وكأنها متوجسة من أن أحدهم سيجرها إلى المجهول . كلمتها محاولة استدراجها إلى نوع من الحميمية، صمتت بقوة كأنها تأمرني بالصمت، كشفت قليلا عن صدرها وهي تقول بدمع حارق، أرأيت هذه السلسلة وهذه الخواتم والخامسات وآيات الكرسي وأسماء الله المعلقة فيها، هي كل تاريخي وكل عمري. اندهشت ولم أفهم. كان في نيتي أن أحاورها فقط وأن أسألها سؤالا واحدا لا أكثر * ما هو الشيء الذي دفعك إلى البقاء في الشارع* كنت أشتغل حينها على موضوع المرأة والعنف، ترصدت أمكنتها وتنقلاتها في الكثير من المرات، أخذت لها بعض اللقطات دون أن تدري، ليلا وفِي مكان خفي مجاور للفرن شعبي، تفترش خارطة تتوسد حقيبة وتتدفى بعلم، توهم نفسها أنها في حضن وطن. عدلت من جلستها لملمت أشياءها القليلة مطمئنة نفسها أن كل شيء في مكانه وعلى ما يرام، انتبهت عن قرب إلى الحقيبة القديمة، شعرت بارتجافة وبرودة تسري في قلبي، حقيبة مثل تلك الحقائب التي كان يسافر بها المهاجرون، لونها أخضر زيتي ذكرتني بالحقيبة التي لا زلت أحتفظ بها لابن عمي عمر، الشهيد الذي درس الطب والتحق بالثورة ولم يعد، بعد أن عاد مرة واحدة فقط كان عمري خمس سنوات ، كأنه ساحر، في يوم واحد علمني الحساب وكتابة الحروف بالعربية والفرنسية ونطقها بشكل صحيح، كأنه عاد من أجلي فقط وليوم واحد وغاب. قالت: أنا من يطرح الأسئلة وأنا من يجيب. أنت لا تعرفين عني شيئا، فيكف ستسألين ومن أين ستبدئين. أنا من تجلس على حواف بركان من الأسئلة الحارقة وليس أنت. أنت جئت بأسئلة جاهزة وبأفكار مسبقة لتأخذي ما تريدين وتسمعي ما تشتهين وليس ما أريد أنا، لضمان ظهورك في واجهة الشاشة أو عنوانا كبيرا وبارزا في الصفحة الأولى من جريدة ما؛ وكأنك حققت انتصارا كبيرا وإنجازا مبهرا. يا ابنتي همك الأساسي ليس أنا كما أنا، كثيرون جاؤوا قبلك، أنا هنا قبل أن تولدي، جاؤوا صحافة ومسؤولين في سيارات فاخرة كنت جميلة وشعري مثل الشلال، وعدوني بالعيش الجميل لكنهم فقط أخذوا مني كل ما هو جميل وجعلوا من الشارع بيتي. لست الوحيدة نحن كثر أطفالا ونساء ورجالا، عددنا لا يحصى، جوبي شوارع كل المدن ليس في هذه المدينة فقط، اخرجي بعد أن ينام الناس وبعد أن يدخل كل واحد إلى همه أو نعيمه، سواء بين حيطان المرمر أو القزدير في الهوامش المنسية. أخرجي بعد أن تستيقظ الفئران والجرذان والصراصير والقطط والكلاب ورجال النظافة والذئاب البشرية التي لا ترحم أي لحم طري. أسئلتي بسيطة والأجوبة عليها أبسط!!؟؟ ما معنى كلمة وطن وكل الأوطان تضيق على أهلها وتأكل أبناءها مثل القط الهائجة ؟؟؟ ما معنى أن يكون لنا بحر والبحار تأكل أرواحنا وجرح أرحامنا؟؟؟ لم أعد أرفع عيني إلى السماء لأنها سُرقت بكل ما يسكنها من نور، وكأن الكون كله متواطئ. الموت هو الوحيد الذي لم يمت عندنا؟؟؟؟ أسألتك كلها أعرفها إذا كان عندك صبر أيوب مثل صبري سأسردها عليك سؤالا سؤالا، كلكم تطرحون نفس الأسئلة إلا الأسئلة الحقيقية والمحرجة التي تهم من هم مثلي. لكن اجلسي. لا تخافي لست مجنونة ولا مهبولة كما يقولون، أنا في كامل وعيي وفِي كامل قواي العقلية. اسمعي وسجلي إن أردت.