يكاد يصبح من البديهي القول إن قصيدة النثر الجزائرية قد استطاعت أن تتخطى جلّ المعوقات التي وقفت في وجهها، و التي تقف عادةً في وجه كل محاولة تجديد، و ذلك من خلال تجاوزها مجمل الحواجز الإيديولوجية و المُسبقات الفكرية و النقدية ومناطق الحرن الأجناسية التي رافقت نشأتها و لا زال بعضها يربض في طريق تشكّل وعْي كتابةٍ متجدّدة تدفع بالشعرية الجزائرية إلى تحقيق ممكنات ما تحمله من جرأة من أجل البقاء في الصفوف الأولى من سباق المسافات الطويلة الذي تحمله مسارات الإبداع الشعري كما تتفتح عليه جلّ التجارب العربية و الإنسانية. كما أصبح من البديهي، ونحن نتحدث عن المدونة الشعرية الجزائرية، الإقرار بوجود تراكم نصيّ في قصيدة النثر جدير بخلق فاعلية نقدية تُخرج الأطروحات النقدية الراهنة من المُغلقات المأسورة داخل عقدة التبني و التسمية و التذوّق إلى آفاق رؤيوية تتجاوز النظر إلى الشعر كما لو كان خلقا قديما مدثّرا بلبوسات لا تبلى و ببلاغات لا تتجدّد. و لعل الذي يحاول النظر إلى عديد النصوص المطبوعة بجهد أصحابها بمنظار الأفق المفتوح على ما راكمته التجربة الإنسانية من إمكانات تشكيل لا متناهية، يجزم، لا محالة، أن قصيدة النثر في الجزائر قد جاوزت كلّ هذه الجدُر المنصوبة في وجهها منذ دخول حركة الجديد الشعري إلى المدونة الشعرية الجزائرية منذ منتصف القرن الماضي، و استقرت، أخيرا، عروسا مكتملة داخل تجارب جيل جديد من الشعراء يكادون يسخرون بتواضع كبير ممّا يمكن أن تتكبده أية تجربة من معوقات و من أوجاع ليس أقلها نكران المجهود الكبير الذي تحققه تجارب هؤلاء الشعراء، في واقع ثقافيّ ينتصر لموضة التقليد و هيمنة الشعر الجاهز، بسعيهم الحثيث و الصامت إلى تمرير بصمةِ كتابةٍ مُوشّحة بنكهة جديدة في تذوّق ما يستطيع الشاعر أن يضعه من ممكنات تخييلية و جمالية تضع البلاغات الجاثمة على صدر المواهب الشعرية العديدة و النصوص الشعرية الكثيرة كما تجثم الغولة على باب طيبة، في راهن ممارسة شعرية عالمية هي أشبه في الشعر بما يجري في مخابر العلوم الدقيقة في البلدان المتطورة من بحث عميق لدفع الممكن التخييليّ إلى آفاق لم تكن معروفة من قبل. و لعل من يطلع على دواوين و قصائد شعراء أمثال عادل بلغيث و محمد قسط و أمين سعيدي وكابري نهلة و محمد بوطي و آمال رقايق و بشير ميلودي و غيرهم من الأسماء الشابة الجديدة، يدرك تمام الإدراك مقدار ما تختزنه نصوصهم من مجازفة بتحمل عبء كتابة الشعر في عالم سردي مناوئ لا يعير أدنى اعتبار لمكابدات التكثيف و الاختزال و الموت و الحياة داخل اللغة أولا، و من وعي بحيثيات ميلاد شعرية جزائرية مفخخة بمطبات التاريخ و بقناعات الإيديولوجيا و بوصايات النقد ثانيا، و كذلك من جرأة في محاولة تجريب الكتابة من خارج الأسوار المحروثة مسبقا و البحث عن أقانيم تخييلية بعيدة تفتح شهية اللغة التي تبقى مادة الشعر الوحيدة على موائد جمالية لم تعهدها الكتابة الشعرية الجزائرية من قبل. لقد استطاعت قصيدة النثر عموما، و كذلك التجارب التي لا تزال في بداية الطريق لهؤلاء الشعراء و أمثالهم، أن تُخرج الكتابة الشعرية الجزائرية من البلاغات الجاهزة و المواضيع المطروقة و الأساليب التي قُتلت بحثا و تكرارا داخل المرجعيات المناسباتية التي أغلقت على المخيال داخل التصورات المسبقة للمهرجانية و الجوائزية و المنبريات بإحكام مُطبق، حتى لم يعد القارئ يجد ما يلمسه من جديد داخل الشبيه، و ما يغترّ به نسج داخل الرتق. ذلك أن من ميزات ما تطرحه هذه التجارب، و هي على بداياتها، نزوعها للوحدة الشبيهة بالخلوة التي لا تتشهى شيئا ممّا سبق من تبجيل أو منبرية أو جوائز. و لعل من خصال قصيدة النثر أنها لا تستدرج مصفّقا برشاقة قدّها، و لا تتمايل لسامعٍ في منبرها، ولا تستجدي تشطيرا و لا تركيبا من ناقدٍ خليلٍ لا يرى الشعر إلا فيما رآه فيه الأولون، حين كان الوزن ديدن الأولين و مربط بحرهم و مربد نقدهم. ذلك أن همّ قصيدة النثر هو أن تتقدم لغة عارية للقارئ كما تتعرى الطبيعة المحضة لرسّام الوجود، هكذا..كما هيّ..بلا مساحيق و لا تشبيهات و لا أقنعة، لأنها تجعل من هامش الوجود المنسيّ وجودا حاضرا باللغة و في اللغة و داخل اللغة، بما يحمل هذا الهامش من مكنونات و مكامن و ممكنات يعيد الشاعر الموهوب تشكيل العالم من خلالها، و النظر إليه بمرآة ما يعترى الوجود من شك لا يسعى إلى اليقين بالجناس و الطباق، و من حيرة لا تسعى إلى الطمأنينة بالوزن الإيقاع. لقد أدرك هؤلاء الشعراء، بغض النظر عما يمكن أن يكتنف تجاربهم من مزالق البدايات، أن الإيقاع يكمن كذلك في الشك، و أن الطمأنينة تكمن هي الأخرى في الحيرة. و لعل هذا ما نجده موزعا في دواوين هؤلاء بمستويات مختلفة، و بوجهات نظر للحياة و للكون و للأشياء تدور على مدار الزاوية، لا تتوانى في نسج أساطير بسيطة في بنية الموضوع، أو حبك قصص غير عادية في متن القصيدة، أو البحث على المفارقة في قشرة الهواء الحار الذي يخلفه الصيف في أوجه العابرين و في أزهار الربيع المتجدّد. و لعلها خصلة كبرى أن تخرج القصيدة الجديدة من أسر الموضوع إلى الموضوع، و من قيد البلاغة إلى البلاغة، و من ضيق اللغة إلى اللغة. إنه الشعر كما هو، بلا وزن و لا قافية و جناس و لا طباق. إنه الإنسان في مواجهة العالم وحيدا إلا من نفسه، و أبكمَ إلا من اللغة. و لعل ما يحتار له المتتبع ألا تحظى تجارب هذه الأسماء و غيرها من الجيل الجديد من الشعراء، من منظمي معرض الكتاب الدولي، على الأقل في طبعاته الثلاث السابقة، بالتفاتة واعية بما يعتري النص الشعري الجزائري من تغييرات جوهرية، فيتطرق إليها في ندوات نقدية، أو في موائد نقاش، أو في تغطيات صحفية، أو في استضافات إلقاء تعرّف الجمهور الجديد بما يكتبه أقرانهم الشعراء من تجارب جديرة بالتعريف و التثمين، فينصفون بذلك هذا لجيل الذي أخاله لا يريد إلا الأقل القليل من الانتباه ليشعر بأن ثمة من يقدر جهده، و يثمّن تجربته، و ينوه بما يبذله لوحده من أجل نشر تجربته و الاستمرار فيها، لأنه يرى بأم عينه ما يحظى به الساردون و نقادهم من تبجيل، و المتفلسفون و أتباعهم من احترام، و ذوو الأغراض و التخصصات الأخرى و من تبعهم من تقدير..فإلى متى تبقى التجربة الشعرية الجزائرية الجديدة بعيدة عن الاهتمام؟