لا يمكن أن يختزل مسار كاتب كرشيد بوجدرة في شهادة متعثرة ،ومجروحة، ولا يمكن أن تقرأ تجربته الغنية في حدود مألوفة ،وأنساق ،وسياقات متداولة.كما لا يمكن البتة العبور على تاريخ روائي جزائري يكتب باللغتين الفرنسية والعربية ،وتتنازعه ثقافتان وضفتان دون طرح أسئلة شائكة ومعقدة تتعلق بتاريخ الروائي نفسه الموشوم بالتميز والخصوبة والقطيعة مع السائد،والتمرد على تقاليد الكتابة الروائية المعروفة لدى كتاب جزائريين مارسوا الإبداع السردي باللغة الفرنسية بتجاوز إرث كامل صنعه روائيون كبار من طينة محمد ديب ،ومولود فرعون ،وكاتب ياسين ومالك حداد،وآسيا جبار، وغيرهم. أحدث بوجدرة رجة كبرى في عالم الرواية المكتوبة بالعربية والفرنسية في جزائر متعددة الأعراق والثقافات واللغات ،ومفتوحة على أفق الاختلاف والرؤى والتجارب .كانت رواياته صدمة وحارقة ومزلزلة لقيم الكتابة في جنس أدبي يحتل الصدارة في المشهد الأدبي الجزائري والعالمي.ولعل سمة التحديث والتجديد والثورة أهم ما يصف كتابة بوجدرة المتمردة ،الحارة ،المجنونة ،الموغلة في عنفوانها وأصالتها،المفجرة لأسئلة موجعة تتعلق بالهوية والوطن والثورة ،والتاريخ ،والجنس والمرأة،واللغة .هذه اللغة التي كانت مغامرة مفتوحة على مستحيل الكتابة ،ومنذورة للتجريب والذهاب إلى الأقاصي في محاولة لرأب الصدوع ،واستنطاق الشروخ التي ظلت نبعا يغرف منه بوجدرة ؛يلتئم به ويتطهر من تمزقات طفولته وعقدها في علاقته بوالده الذي لم يحبه أبدا ،وفي شكل العلاقة القائمة بين هذا الأب والأم. بوجدرة المرتحل بين لغتين ؛لغة يعشقها بصوفية ،ويتجلى في حضرتها،ويزهو بأمجادها،وتاريخها العريق الذي كان جوهر الحضارة العربية الإسلامية ،ولغة أخرى فرنسية هي اللغة الغازية التي تمارس الهيمنة الثقافية من طرف الإستعمار ،وما أحدثه من تشوهات الإنتماء ،واغتراب الذات ،وتمزق الهوية في مقاومة مستميتة لشعب رفض العبودية،والانسحاق داخل أطروحة العبد والسيد ،والمركز والهامش.كان الرهان صعبا وقاسيا بالنسبة إلى جيل كامل من الكتاب الجزائريين الذين اضطروا إلى كتابة ذواتهم وتجاربهم وألمهم بلغة الآخر بعنف إبداعي هو قشة الغريق التي يتمسك بها حتى لا يموت،وحتى يطلق صرخته البيضاء في هذا الكون.كتابة حادة ومضاعفة الألم لمواجهة عنف الاستعمار وقمعه وإلغائه لهوية وروح بلد عصي على التدجين والمسخ والفناء.في هذه المناخات التي تختبر الذوات الحقيقية المبدعة انبثق بوجدرة المحارب الذي واجه الإستعمار والإرهاب وواجه تاريخه و تجربته في الكتابة باللغة الفرنسية التي أبدع فيها ،وأ وصل بها إلى الترشح إلى جائزة نوبل ،واجه بوجدرة اللغة العربية وخاض مغامرته القصوى في عمله الأشهر «التفكك» بعد أن أحدث عمله الروائي التطليق بالفرنسية حالة من الذهول والجمال والتمرد تجعل أي كاتب مخلصا لهذه اللغة التي رسمت الحدود بين عالمين وتجربتين ؛عالم روائيين شكلوا مسار الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ،وقدموا منجزا عالي القيمة ،وجاء بوجدرة ليتجاوز كل تجاربهم ويقطع مهم فنيا وابداعيا ،ويحرر الكتابة من الخطابات التي وسمت هذه التجربة. هذا الإنتقال الصادم في تجربة الروائي بوجدرة هو جوهر روحه الإبداعية ،وسر عنفوانه في سماء الكتابة ،وذاكرتها التي سافر فيها بوجدرة في فضاء تدميري،يتأرجح فيه الإنتماء ،وتنكشف منه مناخات التمزق ،ومجابهة الإنهيار بعنف الكتابة وقسوتها في التدمير والأسر والتحرر ،والمخاطرة في اللغة لاستجلاء كنوزها وعبور حوافها المجرحة بالإرتطام الحاد بنورها وقوتها والتطهر المطلق في روحها.