منذ البدء لا يمكن تصور نظام ديمقراطي بدون أحزاب سياسية , و من جهة أخرى لا يمكن بناء ديمقراطية قوية بأحزاب هشة و إن تعددت , فكثرة الأحزاب ظاهرة صحية , عندما تقوم الأحزاب السياسية بمهام تأطير المجتمع سياسيا من خلال انفاتحها على جميع الفئات الاجتماعية, بحيث يجد كل مواطن حزبا أو أكثر تتوافق برامجها السياسية و توجهاتها الإيديولوجية و مشاريعها الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية , مع طموحاته الشخصية , بل يجد المواطن في الديمقراطيات التقليدية مجالا واسعا للاختيار حتى ضمن العائلة السياسية الواحدة , ففي فرنسا على سبيل المثال يجد الفرنسي ذو توجه أقصى اليمين 14 حزبا يمكنه اختيار الأنسب لميوله السياسية , و نفس الخيار متاح لذوي الميول اليمينية عبر 11حزبا , و وسط اليمين من خلال 10 أحزاب , و الوسط الممثل ب9أحزاب ؛ و وسط اليسار ب8 أحزاب ؛ و اليسار ب11حزبا ؛ و أقصى اليسار و تفرعاته ب 18 تنظيما سياسيا. وإلى جانب هذه الأحزاب هناك الأحزاب الجهوية و المحلية و الفيديراليات الجهوية و الشعوب المتضامنة لمن يفضل التفرغ للنضال السياسي على مستوى محيطه المحلي , و كل هذه العائلات السياسية انبثقت عن إرادة مناضلين سياسيين لتوفير فرص تمثيل معظم الحساسيات السياسية في أبعادها الوطنية , الجهوية و المحلية .إذ يمكن أن تتكاثر الأحزاب أو تختفي بحسب الحاجة إليها , ما دامت هناك آليات الفرز بين الغث و السمين تتمثل في الانتخابات و صرامة القانون , و هيئة ناخبة واعية . كما أن عامل عمر الحزب لم يعد له كبير تأثير على التعددية الحزبية , في ظل «و جود شبكة النت « و «تبادل دائم للأفكار بين كل مستخدمي هذه الشبكة بحرية غير متاحة في الحياة الواقعية حتى في أعرق و أقدم الديمقراطيات « فالحزب الجمهوري الديمقراطي الأمريكي موجود منذ سنة 1792 قبل أن يتطور ليصبح الحزب الديمقراطي الحالي منذ 1928 و ينجب 15 رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية , كما أن غريمه الحزب الجمهوري ظهر منذ 1854 و أنجب هو الآخر 19 رئيسا ,دون أن نسمع نداءات تطالب بإحالة الحزبين على المتحف , كما نسمع عندنا بالنسبة لجبهة التحرير الوطني , إلى جانب نداءات مطالبة بحل أحزاب الموالاة ؟ علما أن تأسيس الأحزاب السياسية أو حلها يخضعان للقانون الساري المفعول في كل بلد , و الجزائر ليست بدعا في ذلك , أما مسألة شعبية الأحزاب فهي من العوامل المتغيرة بتغير مواقف الهيئة الناخبة , التي تميل عادة إلى الأحزاب أو الزعماء السياسيين الذين تراهما مؤهلين أكثر لتحقيق تطلعاتها, بغض النظر عن أقدمية أو حداثة تواجدهما في الحياة السياسية , فالرئيس الفرنسي الحالي ينتمي إلى حزب حديث النشأة «من النوع الذي نسميه نحن باستهزاء بالحزب الذي زاد بشلاغمه», و هذا النوع من الأحزاب ازداد عددها في الفترة الإخيرة في مختلف الديمقراطيات إما لتنامي النزعة الشعبوية , أو لمواجهتها في نفس الوقت . و بالتالي فإن إقامة «محاكم» في إطار الحراك الشعبي لمحاسبة الأحزاب , سيكون مضيعة للوقت و الجهد , و تمييعا للمطالب الشعبية التي تهدف إلى وضع أسس نظام حكم جديد يتيح لكل الجزائريين و الجزائريات حرية الممارسة السياسية ضمن الحزب الذي يناسب أفكارهم و قناعاتهم , أو خارج الإطار الحزبي شريطة احترام القوانين السارية المفعول أو التي يقرها النظام الجديد؟. لأننا نعتقد أن من عوامل هشاشة المنظومة الحزبية عندنا أنها وليدة تعددية سياسية لم تنشأ منذ البدء لمهمة تأطير الحياة السياسية , و إنما جاءت نتيجة عملية قيصرية لامتصاص الاحتقان الاجتماعي الناجم عن انسداد الآفاق الاقتصادية الذي كان وراء أحداث 5 أكتوبر 1988 .أي أن المطالب كانت يومئذ اجتماعية اقتصادية , و المكاسب كانت «سياسية» تمثلت في تعددية حزبية كان من تبعاتها مآسي العشرية السوداء , و ساحة سياسية مكتظة بأحزاب ذات وظائف موسمية مرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية , و عاجزة تنظيميا و بشريا و ماديا عن منافسة أحزاب السلطة , ببرامج سياسية هادفة تعبر عن طموحات الشعب الجزائري و تخطط لبناء مستقبل الأمة على أسس سليمة بعيدا عن الخطابات الديماغوجية التي نفرت الجزائريين من العمليات الانتخابية , و أنتجت مقابل ذلك تنافسا على المناصب الانتخابية التي أصبحت مطمع» كل من هب ودب». كما أننا لسنا متأكدين من نجاح , تأسيس حزب جديد يتبنى مطالب الحراك الشعبي , لاحتمال تحوله إلى حزب شعبوي , كونه يجمع حساسيات سياسية مختلفة بل و متباينة , تؤثر على انسجام نسيج قواعد النضالية , كما قد يتربع على كرسي «حزب السلطة الجديدة», فيكون أشبه بسابقه , لا سيما أن النزعة الإقصائية بل الاستئصالية كانت جلية في بعض شعارات و لافتات المتظاهرين , كما أن تجربة حركة «قبضة اليد» اوتبور الصربية التي أصبحت رائدة في إرشاد و توجيه الثورات السلمية عبر العالم , قد فشلت فشلا ذريعا عند تحولها إلى حزب و ترشحها لرئاسة الجمهورية في بلدها .فضلا عن استطلاعات الرأي حول مختلف الثورات الشعبية كشفت أن أغلبية المشاركين في هذه الثورات من الفئة المدمنة على عدم المشاركة في التصويت في العمليات الانتخابية . هذا كله يقودنا إلى التساؤل الذي طرحه أحد الخبراء السياسيين في بداية الحراك الشعبي , وهو «قبل انتقاد الوضع الذي أنت فيه ,عليك أن تبحث عن مدى مساهمتك فيه « , بمعنى أن» إصلاح الوضع مهمة الجميع» بما فيهم الأحزاب السياسية, عتيدها و جديدها.