منذ بضعة أشهر ، أهداني صديقي الباحث المسرحي الدكتور عبد الكريم بن عيسى إصدارَين جديدين له في مجال المسرح ، و قد سعدتُ كثيرا بهذا التّوأَم ، ذلك أنّي كنتُ أعيش قفْرًا معرفيا رهيبا بعد نفاذ كُلّي للمادة النوعية القابلة للقراءة من رُفوف مكتبتي المنزلية .. تساءلتُ و أنا أحوِّط الإصدارين بذراعي : أيّهما أخصّه بعنايتي أوّلاً، و أيّهما سأتفيَّأُ بظلاله في ظلّ الجَدْب المعرفي الذي كنتُ أعانيه وقتذاك .. ظلتُ لدقائق حائرا في المفاضلة بين هاتين الحُلّتين اللّتين طرزتهما أنامل عبد الكريم بن عيسى ، واستقرّ رأيي بعد حين على مباشرة قراءة الإصدار الموسوم ب : ميقاعية العرض المسرحي .. لا أخفيكم أنّ ما وجّه اختياري هو غرابة أولى كلمات العنوان : ميقاعية ، هذا اللّفظ الذي أثارني و استفزّ فضولي ، و أرغمني على مطاردته عبر السطور و الصفحات لأستحلي مبناه و معناه .. لقد كنت أعتقد قبل بدء القراءة أنّ صديقي ربّما يقصد بالميقاعية ما نسمّيه الإيقاع أو الإيقاعية ، وقد صدق حدسي إلى حدٍّ ما ، غير أنّ الميقاعية - في تعريف المؤلِّف لها - هي مجموعة إيقاعات منفصلة لعناصر العرض المسرحي ، تؤدي لدى انصهارها في بوتقة واحدة إلى تحقّق المنجز الميقاعي العام للعرض المسرحي .. في حقيقة الأمر ، استحسنت هذا المصطلح ، و اقتنعتُ إلى أبعد الحدود بالمبرّرات و التفسيرات - اللغوية و الفنّية -، التي قدّمها صديقي للتدليل و التأكيد على أحقيّة هذا الكائن المنحوت في التواجد ضمن حظيرة المصطلحات المسرحية المتداولة منذ أرسطو إلى الآن .. وبعد انتهائي من قراءة الكتاب، نظرتُ إلى الإصدار الثاني : تراث ايرادْ ، و هممت بقراءته ، غير أنّي سرعان ما تخلّيت عنه لأعود إلى الإصدار الأول لمعاودة الإمعان فيه للتثبّت من مصداقية الميقاعية كمصطلح ، وكنسق إيقاعي حاضن لجملة من عناصر ومكوّنات البناء الهرمي للعمل المسرحي، وهذا بوصفه منظومة متشابكة إيقاعيا ، متوازنة منطقيا، وفق هارمونيا الإيقاع العام المتّسق للعرض المسرحي .. وكنتيجة لقراءتي الاستكشافية الثانية ، أظنّني بلغت إلى إدراك نسبي للمقاعية كأداة لقياس تمفصل الحِزم الإيقاعية للنص و عناصره ، والعرض و مكوناته، ومدى انسجامها وتناغمها كلّها لتحقيق الميقاعية المنشودة ، عبرَ التوليف - طبعًا - بين جملة الكتل الإيقاعية المتواترة ، لِيتشكّل بالنهاية المعمار الهندسي الميقاعي للمنجز الفني.. و حتّى أكتب بعض الأسطر لأشرح فيها أفهوم الميقاعية لجمهور فضاء المسرح ، حاولت مرارا التواصل هاتفيا مع صديقي عبد الكريم بن عيسى ، لأستفسر شفهيا عن بعض المفاهيم و المصطلحات الواردة في مُؤَلَّفِه ، لكن للأسف لم يتمّ التواصل بيننا ، وعلمت لاحقا أنّه سافر إلى القاهرة لتنشيط ندوة معرفية حول نتاجاته البحثية الفنيّة ، وسيبقى هناك لفترة وجيزة ؛ و لكن المفاجأة أنّه كان يبشّر بالميقاعية في أرض الكِنانة، وظلّ هناك طيلة أطوار البطولة الإفريقية يتفاعل ويتواتر مع العزف المنفرد للخضر، وأمضى أيامًا عديدة على إيقاع الانتصارات الكبيرة لمنتخبنا؛ هذه الباقة من الانتصارات الباهرة التي أفْضتْ إلى تتويج الفريق الوطني بسْتَادْ القاهرة بكأس إفريقيا للأمم، ضمن ميقاعية متميّزة، هي محصّلة لإيقاعات وأداءات متناغمة لكلِّ الجزائريين : لاعبين و مناصرين وحِراكِيين ؛ ميقاعيةٌ كروية هندسها المايسترو : جمال بلماضي، وتماثل في سحرها وجماليتها ميقاعية المنجز الفنّي الذي يشرف المخرج المسرحي الحاذق على تصميمه وتنسيق عناصره وتجسيده على الركح، بهدف إشباع نَهَمِ المتلقّين، وتلبية حاجاتهم الملِحّة إلى تذوّق سليم لصنوف المعرفة ، و مختلف ألوان التسلية و التسرية، وشتّى أشكال الفرجة و ضروب المتعة ...