عندما أقرأ لكاتب حديث العهد بالكتابة نصا، فأنا أعتبره بمثابة إعلان عن شهادة ميلاده الإبداعية، ومن الطبيعي جدا أن يحمل معه عثرات البداية ككل البدايات التي لا تجيء مكتملة التكوين وبالتالي. فالحكمة تقتضي أن يتم التغاضي عن بعض العثرات والهنات بوصفه لا زال على عتبات البداية بأن يحاول الاستفادة من هذه العثرات وتداركها في المستقبل. وهنا تكون مساحة التسامح النقدي مع النص أوسع وأرحب، بشرط أن لا يعتقد أنه قد وصل واكتمل المعنى لديه وأن لا يضع نفسه في مكانة لا يستحقها أو يقدم نفسه في صورة لا تنسجم وحجم النص الذي يقدمه أو ينوب عنه في التعريف به، وهذه من أكبر العلل والأوهام التي كثيرا ما يُصدقها بعض المتهافتين على الموائد المتسللين إلى رحابها، لمجرد أن زيد أو عمرو نشر نصا أو اثنين في ظلّ مجانية النشر وربما الابتذال الذي وفرته شبكة النت وفضاءات النّشر المفتوحة للجميع دون استثناء، لأنها تطال الحدّ الأدنى من التمثل والوعي بالكتابة الإبداعية أو" الامتصاص " بتعبير "جوليا كريستيفا "خارج مدار وهم اكتمال المعنى .... وهنا لا بد أن نفرق بين قضيتين كثيرا ما تطرحان في هذا السياق المربك ، وهما الرقابة التي عانى منها الجميع في مراحل سابقة قبل الانفتاح الديمقراطي الذي عرفه الفضاء الإعلامي العربي ولو في شكله الواجهاتي، فيما القضية الثانية وهي قضية الضوابط المفهومية لمختلف الأجناس الأدبية في صورتها المدرسية كحدّ أدنى التي تحدد للناص الشروط الموضوعية التي يحيا فيها نصه من أجل أن يمتلك مبررات بقائه ووجوده الفني خاصة إن كانت هذه العثرات والمؤاخذات تطال مثلا الحد الأدنى المطلوب في أي نص إبداعي . فالشهادات المحصّل عليها لها سياقاتها المهنية ولا علاقة لها بالإبداع وكذلك تعليقات القراء و "الأصدقاء " ليست دليل إبداعية، لأنها غالبا ما تتأسس على المزاجية النفسية والاعتبارات العاطفية الدوغمائية والتكتلات الفئوية والجهوية ولغة المجاملات و« الحشمة " التي لا تصنع أديبا ولا تحثه كيف يتعلم من التجارب المختلفة في الكتابة والوجود . لقد أردت أن أنبّه إلى هذا المعطى الإبداعي للفت انتباه بعض المواهب القادمة من السقوط في مهاوي الاستسهال والمجانية لتجيء هذه النصوص تحمل عوامل بقائها لا عوامل موتها ودون أن أضع في اعتباري شخصا معينا أو نصا ما، فأنا أتكلم في المطلق العام من منطلق الخشية على القيم الرمزية والفنية والجمالية والبنائية التي لا يستقيم النص الإبداعي دونها . فحفظ بعض عناوين النصوص والأسماء و استعراضها والتظاهر بها في بعض المناسبات الثقافية أو اللقاءات العابرة بشكل فجّ، ولعله أقرب إلى ما سماه الدكتور السعيد بوطاجين " القراءة بالأذن "دون قراءتها والوعي بها وبمضامينها وبسياقاتها التاريخية والمعرفية لا تعني شيئا أبدا ولا تقدم إضافة ولو كانت بسيطة إلى حاملها أو الحاملين لها ومن الأفضل استبدالها بعروض الأزياء مع احترامي الكبير لكل عارضات الأزياء في مشارق الأرض ومغاربها وفي كل بقعة من العالم والنزوع إلى الاستعراض المجاني و« التشكل الكاذب " بتعبير شبنجلر الأشبه بمن صدق الوهم النابع في تصوري من الوهم باكتمال المعنى ..المعنى الذي لم يكتمل أبدا في السياق بن العربي والكوني إلا مع النص المقدس ومن الجهل والخواء المعرفي . فالقراءة والتحصيل العلمي والإبداعي المثمر خارج المقررات المدرسية أو تلك السياقات المهنية أو التراتبية تحرر الفرد من كل تلك الوثوقيات الضالة التي صدقها وتسربت إليه بفعل فقر المحيط الاجتماعي وعقيدة الوثوق الأعمى المتجذرة في المخيالات البعيدة لمجتمعاتنا العربية الأبوية وتغذي وجدان و مخيال المثقف على ما أعتقد وتستدعي فيه التجلي الحواري وأسئلة التفاعل المنتج للمعنى والدلالة والانفتاح على دبيب ورؤيا الصوت المختلف عنه سعيا منه " لاقتسام الفهم " بتعبير ميشال فوكو ، ولتأثيث وعيه بالتشبع بالقيم التي تتأسس عليها روح الثقافة المعاصرة الميالة لطرح الأسئلة وعدم الحسم فيها أو الاكتفاء بالأجوبة الناجزة أو الإصرار عليها كأن روح " بوعريفو" تسكنها أو تسكن " الوعي الشقي " لحاملها المؤمن بها بشكل لا يقبل الجدل أو المناقشة . فلم يعد كافيا أبدا التعلق ببعض أذيال المعرفة التقنية أو الاستخدام الميكانيكي العشوائي لبعض محددات الحداثة الشكلية في نصوص لا تحمل رؤية ولا تمثل روح العصر وثقافته التي يزعم الكاتب والشاعر المعاصر أنه يمثله، بل إنها تناهض من الناحية السياقية متكآت النص الأخرى من الداخل إن لم تكن أشبه " بالوعي المضاد للنص" وللقيم التي يتأسس عليها وهنا تتجلى المفارقة الكبرى ويغدو المحمول الإبداعي في صلته بالقيم الحامل لها أو المتكئ على بعض عناصرها أمام محك المساءلة النقدية والبحث عن دواعي عدم التماثل بين " النص الغائب " والنص الراهن بين الناص والمنصوص . وهي أقصى درجات الاغتراب الثقافي والولوج في دهاليز الإفلاس الإبداعي وغياب الوعي بأهمية الكتابة الإبداعية وخطورتها ومن ثم الإستهانة بالقارئ وتجاهله كشريك مهم على درجة كبيرة من الوعي بالأسئلة التي يثيرها النص المقروء في إنتاج المعنى والدلالة المعنى الذي كان يرى عبد الله الغذامي " أنه قائم "في بطن القارئ لا في بطن الشاعر ولو كان في بطن الشاعر لصار من الناحية الرمزية والدلالية في قبره " . ولا علاقة لذلك بما يسمى صراع الأجيال أو الاصطفاء بين الكتاب والكاتبات على أساس اللون أو البشرة أو الجنس أو الانتماء الجيلي والعمري والفئوي والأثني والقبلي أو المهني والهووي . فعندما لا أتناغم مع القيم الرمزية والفكرية التي يكرس لها جهده مفكر ما حتى ولوكان من غير جيلي أو ملتي ولا أجد نفسي منجذبا لتوجهه الإيديولوجي لا يعني هذا أن أبخسه حقه أو يتحول عندي إلى نكرة أو "ملعونا"، لقد تعلمت من دروس النقد المعاصر ومن النقاد العرب أن أحترم كل منظومات المعرفة والاجتهاد البشري حتى التي لا أشعر بالتناغم معها بسياقاتها المختلفة وأدوارها وحدود فاعليتها وتأثيرها في الإنسان والمجتمع بصرف النظر عن المآخذ التي من الممكن أن تنطوي عليها وبإمكان المثقّف النقدي حين لا ينساق وراء توجه ما لفئة أو لتيار أن يستخدم في دحضه للأفكار التي لا يؤمن بها لغة مهذبة واصفة تؤدي المعنى المطلوب من دون أن ينزلق إلى لغة الشارع التي يستهجنها الذوق والعقل . هذا هو المبدأ العام الذي تتأسس فكرة "ربط القارئ بالمقروء "بتعبير الجابري فلا يحق لأي ناقد مهما بلغ من الأهمية العلمية والأكاديمية ومهما كان موقعه الاجتماعي والسياسي التعامل مع نصوص غيره من الكتاب المجايلين له أو غير المجايلين له انطلاقا من مداخل " أل التعريف" ، وهم الاسم المكرّس بفعل عوامل غير إبداعية لتحرير الدّال من المدلول وتقويض ظاهرة " الكتابة بالصّوت" بتعبير الشاعر المغربي محمد بنيس التي هيمنت كثيرا على تاريخ الشعر العربي ولم تكشف لنا سوى على صوت الشاعر الوحيد كفرد في إهمال تام لمفهوم الكتابة كظاهرة ثقافية تشاركية في إنتاج النص الذي هو مجموع تناصات تاريخية وتراكمات ثقافية وعوامل متعددة هي التي ساهمت في تشكله وأفرزته في النهاية و في لحظة إبداعية معينة. ففي كل قراءة نقدية مهما كانت أكاديمية أم حرّة لابد من التحرر قليلا من سلطة الذات المتكلمة في النصّ في إهمال مقصود لها بما يعني بناء مشروع يروم تقويض ظاهرة "الكتابة بالصوت " وسن بلغة ديريدا سياسة جديدة للكتابة للقطع نهائيا مع رواسب " الكتابة البيضاء " أو الكتابة في درجة الصفر " بتعبير رولان بارت لتجاوز "الزمن الخطي الميتافيزيقي" بالمعنى الدريدي، وبناء زمن جديد هو زمن الكتابة المفتوحة المنتجة لما سماه أمبيرتو إيكو " الأثر المفتوح " كأثر ينتجه فعل القراءة على اعتبار أن أي نص وجد من أجل قاريء لا من أجل مستمع مع ما للمعنيين من اختلاف في المبنى والمعنى عندئذ يمكن للشاعر المطبوع كما تشكل من داخل منطومة التراث الشعري العربي بكل عيوبه العيوب الماثلة في خطاب " الشعرنة " وفي الأنساق الشعرية المهيمنة كما فصل فيها محمد عبد الله الغذامي في كتابه الذائع الصيت " النقد الثقافي / قراءة في الأنساق الثقافية العربية " بدخوله " بيت الطاعة القرائية " إمتثالا لقول لجاحظ " إذا سمعت شاعرا بقول ما ترك الأول للآخرشيئا فأعلم أنه لن يفلح " على نصوصه ضمن نسق مفتوح لا يستأثر بأكل رأس الجمل البازل و لا سنامه و فخذيه وحده كما قال الفرزدق ولا يصادر رأي القارئ في أن يفكك شفرات النص و يؤول معناه فالناقد الجيد الذي يتمتع بالحس النقدي وبالمسؤولية التاريخية والحضارية هو وحده القادر على تعرية الأنساق الثقافية المضمرة الكامنة خلف ماكنة النص الذي صار حديث من لا حديث لهم و المعنى الذي صار في" بطن القارئ " «بوعريفو" عبارة شعبية جزائرية تطلق على الشخص الذي يدعي المعرفة .