لا توجد حضارة واحدة في العالم قامت على نفي النقد أو تجاهل قيمته التوجيهية، أو على محو الاختلاف والتناقض كأساس لأي جدل عالم، أو من أجل إنتاج المعنى الذي لا يتأسس سوى على التباين المستمر. الأشياء المتطابقة تفقد معالمها من الناحية التفاضلية لأنها تغدو علامات يتعذر التمييز بينها بالنظر إلى انتفاء البطاقات الدلالية المميزة لها. أمّا النقد فحتمية تاريخية لتقييم الخلل وتقويمه تأسيسا على معرفة مسبقة، أو على مرجعيات ومنظورات فلسفية مؤسسة علميا وموضوعيا، مع ما يمكن أن تلعبه النسبية في اتخاذ الموقف من الموضوعات التي يتمّ التبئير عليها، على تباينها من حيث الجهد والكفاءة المعرفية، سواء كانت سردية أو شعرية أو مسرحية أو فقهية أو سياسية، إلخ. مشكلتنا في الوطن العربي أننا نولد، في أغلبنامستبدين بالرأي، ومعصومين من الزلل، سواء في الآداب أو في الفنونأو في المنطق، لذلك تظلّ علاقاتنا بالفعل النقدي علاقة تصادمية خالدة، ولهذا السبب تحديدا يتعذر علينا التأسيس لحوار بنّاء يسهم في ترقية العقل والجمال والمجتمعات، مع قبول فكرة مهمة يمكنها أن تفتح أذهاننا على الممكنات: نحن مجرد بشر عابرين في الكون، وليس بوسعنا كتابة مقدسات، كما يحصل في الشأن السياسي والديني. عندما نبلغ هذه المرحلة من الفهم الحضاري سنصبح بشرا نيري، مؤهلين لنقد الذات، وفي هذه الحالة فقط سنسمح للنقد بقراءة إيجابياتنا وسلبياتنا كحتمية، دون أي تحيز مبني على مغالطات مدمّرة، كما يحصل حاليا في العلاقة القائمة بين المنجز وبعض النقد المتحيز الذي أنتج هالات ليست ذات قيمة فعلية، مع أنها غدت رائجة، ومراجع يحتكم إليها في الجامعة، وفي الشأن العام. ربما كانت الحالة الجزائرية استثناء معقدا يصعب التعامل معه في أطر علمية، مع أنّ العالم العربي متشابه حد التطابق بالنظر إلى تماسات البنى الذهنية ومختلف الممارسات الحياتية القائمة. لقد أطلقتُ سابقا عبارة "الجماعات الأدبية المسلحة" كنقد صريح للتكتلات الثقافية والجماعات الضاغطة، ولمختلف الفئات التي ترفض النقد بازدراء، أو تنظر إليه باحتقار، كما يتجلى من خلال بعض التصريحات الصحفية المُهينة للدراسات الأكاديمية المتخصصة، أو من خلال وسائط التواصل الاجتماعي التي نظرت إليه باستعلاء لأنه كشف عن بعض فجوات الكتابة التي أعلى من شأنها الإعلام والصداقات التي لا علاقة لها بالاستقبال الواعي للمنجز. أقصدها هنا الكتابات الشعرية والسردية والمسرحية على حد سواء. البلد يملك مؤهلات نقدية استثنائية، لكنها مشلولة بسبب عدوانية المبدعين الذين يعتبرون النقد مناوئا لهم، أو آلة تحليلية تكشف عن عجزهم، مع أنه ينظر إلى الإبداع بعدة عيون، ومن عدة تموقعات ذات كفاءة عالية. يجب الاعتراف، مع ذلك، بأن المشهد الأدبي والمسرحي في البلد غير سويّ لأنه ملوّث بالفشل والمدح المغالي، ومليء بالرثاث الهش الذي لا يستحق القراءة، مهما حاولنا تبييض صورته بالانطباعات والتقديمات والمقالات والآراء التي لا مصداقية لها من حيث إنها تفتقر إلى المقوّمات المنهجية والعلمية والمصطلحية والمفهومية، وهي مواقف تحتاج بدورها إلى تقويم من أجل إعادة هيبة النقد كمقاربة أكاديمية عارفة بالحقل ومكوّناته وصيرورته. قد يحدث ذلك بعد سنين عندما يجد النقد منفذا إلى النصوص المحاطة بالعسس والأسلحة الفتاكة التي تدافع عن الكتابات التبسيطية التي تمجد نفسها بالاحتماء خلف وسائل التواصل، وغيرها من الوسائط المتخصصة في التلميع. النقد الحالي بحاجة إلى تهوية كبيرة للتعبير عن المسكوت عنه، دون أن يحاصره الكتّاب والشعراء والمسرحيون والمبدعون بشكل عام لأنه مخيف عندما لا يهادن الفجوات، أو عندما لا يسهم في تشجيع التصدعات البنيوية والنحوية والصرفية والسردية، غاضا الطرف عن هيمنة الهزال كسمة نموذجية، وكمرجع مقلوب يعمل على قهر المواقف المضادة، ومواقف النقد تحديدا. لذلك انسحب هذا الأخير من الشأن الأدبي حفاظا على سمعته، وعلى كرامته في زحام اللغط الأعظم، وفي ظلّ الرفض القاطع لما يقترحه من قراءات متخصصة، وهي كثيرة، ولذلك أيضا اتجه نحو المقاربات البنيوية الواصفة التي لا تورّطه مع الفنانين المعصومين بالفطرة، ولأن الدراسات البنيوية، في أغلبها، لا تهتم سوى بتمفصلات المعنى، أي بالأشكال، فقد نبذها الكتّاب أيضا من حيث إنها لا تقدم رأيا، وأما الرأي الذي ينتظرونه فيكمن في الثناء على النصوص، دون التطرق إلى فجواتها، بما في ذلك الأخطاء الواردة في عناوين بعض الكتب، وهي قائمة. هناك نقاد مؤهلون معرفيا ومنهجيا لتقديم مقاربات نصية راقية على عدة أصعدة، وهم كثر، لكنهم لا يرغبون في الاقتراب من عوالم الكتّاب والمسرحيين، أو من هذه الأجواء النرجسية المكتفية بذاتها، دون أن تحتاج إلى أيّ رأي، ما عدا إن كان يسعى إلى تغطية فشلها بمجموعة من الانطباعات التي لا قيمة لها في الواقع العيني، كما يحصل في قارة المسرح الإلهي الذي تقدمه مختلف المسارح الجهوية، كتابة وإخراجا، وبشكل استعجالي بحاجة إلى تقويم، قبل العرض وبعده، ودائما. لقد أصبح المسرح مقدسا، حالة إبداعية غريبة لا يمكن المساس بها، رغم ما يكتنفها من فجوات يتعذر على المتلقي عدم ملاحظتها والحديث عنها سرّا، بعيدا عن المخرج والكتابة الإخراجية، وبعيدا عن مصمم الديكور ومختلف صنّاع العرض الذين عادة ما يقدمون هالات منزلة لا تشوبها شائبة. إننا، كما يبدو للعيان، أمّة عالمة بكل شيء، وأمّة معصومة من الأخطاء المحتملة، ولا يمكن أن تتراجع عن الرأي الخاطئ، ذاك ما يمكن استنتاجه من النقاشات والتشنجات، ومما يكتب ويقال ويعرض كخطاب منزه وجب ابتلاعه بالكامل، دون أي اعتراض على بعض مكوّناته الملتبسة، أو تلك التي تبدو نشازا، وشيئا غير مستساغ، شكلا ومضمونا وصياغة ورؤية. لهذا وذاك يتقاطع الفنان مع السياسي المستبد، كما لو أنهما وجهان لعملة واحدة، ولهذا أيضا وجب على هؤلاء الكفّ عن انتقاد القادة والزعماء لأنهم جزء من شخصياتهم، ومن طرائق تفكيرهم في قضايا أصبحت صنمية، أو من الممنوعات الكبرى التي لا يعتبر انتقادها حراما فحسب، بل شيئا من الكبائر التي يعاقب عليها الكاتب والمسرحي. الكتّاب والشعراء والمثقفون، كعينات شاذة،مستعدون لأن يكونوا في موقع الساسة متى سمحت الظروف، أن يصبحوا سلطة لا تقبل المعارضة، أي كيانا مؤهلا لاضطهاد الآخر من أجل فرض الذات كمرجع مكتمل يتعذر المساس به لأنه سماوي، وتلك حقيقة ماثلة للعيان. اليوم صار الكمال للجميع، من المبتدئ إلى المكرس، ومن العبقري إلى الأخرق، وتلك محنتنا الكبرى التي ستقف أمام أيّ تطور محتمل ما دمنا نعتقد أننا تجاوزنا العلم ومختلف الضوابط الفنية، ولا يمكن للنقد أن يواجه حقيقتنا لأنه غير مؤهل للكشف عن صدعنا، ومع ذلك نمجد الانفتاح وقبول الرأي الآخر، لا نتوقف عن التنظير للحداثة وما بعد الحداثة، للتجريب،نتحدث عن الحضارة والتفكيكية والفكر التنويري، عن قضايا كثيرة ليست من صلب مقوماتنا الحضارية ككتاب ومسرحيين وشعراء ومثقفين ومخرجين مستبدين يقفون مع النقد عندما يمجدهم، وينقلبون عليه عندما يكشف عن عيوبهم، مع أنها طبيعية. مع ذلك، ورغم هذا الاستعلاء المرضي المزمن الذي يضع المبدع فوق الملاحظة، مهما كانت قيمتها، فإن النقد العارف حتمية للخروج من العمى الذي وضعنا أنفسنا فيه بنوع من الخرف، غير آبهين بالقارئ والمتفرج كطرفين ضروريين في ثنائية الإرسال والتلقي، كما لو أننا كلّيو الحضور والمعرفة، أو كأننا نكتب لأنفسنا وندعو الآخرين إلى قراءة مقدساتنا ونحن جالسون على قمة جبل الأوليمب متعالين على الجميع، سعداء بأنفسنا، وبفجواتنا الجليلة التي تعدّ إنجازات تاريخية، مع أنها ليست مؤهلة للصمود أمام القارئ المنبه، وأمام الوقت كأكبر قارئ لما نكتبه. صحيح أن بعض النقد التبسيطي قد يلحق أضرارا جسيمة بهالات أدبية تستحق قراءات ناضجة لا تضع كلّ الإبداعات في مربع محدود انطلاقا من آليات متجاوزة أيديولوجيا وفنيا وفلسفيا ودلاليا. هذه القراءات لا تقدم شيئا للنص بقدر ما تسيء إلى جهده وأدواته التي تتجاوز قدرات الناقد الذي لا يعمل على تطوير مقارباته تماشيا مع أسئلة الكتابة العارفة بالشأن الجمالي لأنها تفكر، أكثر مما تنقل بآلية، كما تفعل مختلف المسوخ المعتدة بنفسها. النقد ليس مجموعة من القوانين الثابتة التي يتمّ حفظها بشكل إملائي، دون وعي بطبيعة المنجز وقيمته، وليس قوة رادعة لا تعيد النظر في أسسها بشكل مستمر. إنه ثقافة وكفاءة، وقدرة على النظر في الضوابط التقييمية التي قد لا تتماشى مع حفريات الإبداع الراقي، مع ذلك فإن النقد يشكل منقذا من الميوعة التي يقع فيها الأدب والفنون قاطبة، كما السياسة ومختلف الاجتهادات، بما فيها الاجتهادات العلمية.