بعض المساجد ليست ككل المساجد !.. بعضها جديد تفننت الهندسة في تشكيله، فقام من الأرض آية شامخة نحو السماء. تشهق مناراته الرشيقة وكأنها تلامس الغيم لتستمطر رحمات الله على العباد. متلألئة بأنوارها كلما آذنت الشمس بمغيب، وداهمها الليل من أطرافها أشعت كما يشع الكوكب الدري في كبد السماء. وبعضها رابض في موقعه كما ربض تمثال أبو الهول قرب الأهرامات، مستقبلا المشرق، متأملا، متعجبا من كر الزمان وتوالي أيامه ولياليه. غير آبه بما يطرأ على الأحوال من تبدل وتحول، وعلى الأشكال من قيام وزوال. فليس من همه الزائل المندثر، ولا من ديدنه العاثر المتأجل، بل فكره في الدهر وما يجري به في المجرات والأكوان. كذاك كانت فكرتي وأنا أخلع النعل لأدخل الصرح الأبيض المشع، بعد عبور رواق مظلل قصير.. كان لقاء أشعة الشمس بالبلاط الأبيض عنيفا تتأذى منه العين بعد خروجها من الظل. وكأن هذا البحر من النور الساطع يغسلك من أدرانك غسلا، فيتصبب النور إلى داخلك، لتتوقف قليلا، فتجيل الطرف من حولك. وأول من يستلمك من دهشتك تلك، هو القوس المنحني أمامك في متتالية لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، تسلمك الإنحناءة منه إلى أخرى دواليك. فإذا أنت تدور مع الانسجام تبحث عن المبتدى والمنتهى. شيء عجيب أن ترى الحركة في السكون، وأن تلمس السكون في الحركة. أن تجد المبنى كله يقوم على القوس، قوة، ومتانة، ورشاقة، واستدارة. وليس من قبيل المصادفة أن تتبنى المعابد كلها هذا الشكل الذي عرف كيف يوحي لمن يحسن الإصغاء إليه، معاني القوة واللين، ومعاني الصلابة واليقين..إنها أغور معاني الصلاة في أشد أبعادها فلسفة وجمالا ! تركت الصرح لألج المسجد/الجامع، تسمية أخرى اجتمعت في الأزهر من سنين.. لا شيء فيه يشوش الماضي، وكأن الزمن ركن هو الأخر عجلته ليستريح قليلا تحت أخشاب السقف وأعمدة السواري. لا شيء فيه يجعلك تجيل البصر مشدودا الى زخرفة وألوان. لأنه يريدك أن تغمض عينيك قليلا، لتتصنت على ما سيمليه عليك من نصوص. هنا في هذه السارية اتكأ شيخ الحديث، وعلى الأخرى نصبوا كرسي التفسير، وهناك كأنت حلقة الكلام والجدل.. نعم مجلس البلاغة والنحو وعلوم اللغة كان هناك في أقصى اليمين.. لا تهتم لهذا الضجيج الآتي من خلف الباب هناك.. إنها صالات تحفيظ القرآن الكريم.. أزيزها كأزيز النحل من بزوغ الفجر الى غروب الشمس، لا تفتر ولا تهدأ.. نعم سكت ضجيج المدينة، وابتعدت أحياؤها في حياء واحتشام وهي تعج بأهلها وزوارها، وأنت هنا في جلستك تبحر في زورقك و قد نفخت الرياح الطيبة شراعك نحو أزمنة قطعها هذا المسجد، وقد توالت عليها سنون خصب وسنون عجاف، وتداولها أيام سلم وأيام احتراب، ولكنها في كل سنة ويوم، كان لها على هذا المنبر خطاب نفير لرد العدوان ودفع الغاشم، وكان لها خطاب تمدن وخطاب تحضر.