لقد بات رائجا في الآونة الأخيرة ما يصطلح على تسميته ب"الصمت" في الكتابة الأدبية؛ ولأن التسمية غالبا ما ترتبط بالمسمى، فقد قذف بهذا المصطلح في قلب شاعرية المسكوت عنه وبلاغة المضمر، وهي كلها إحالات إلى الذات المبدعة في ابتعادها عن الاعتراف والبوح، واتخاذها الصمت ملاذا إبداعيا، يتلبس بالغموض والغياب، وإلباس الواقع مسميات مختلفة، إما عمدًا أو انزياحًا، أو قناعةً، كما على جاء لسان الفرزدق حين سئل: ما صيَّرك إلى القصار بعد الطوال؟ فقال: لأني رأيتها في الصدر أوقع، وفي المحافل أجول" يعد النص الكشفي مغلقا في مبناه ومعناه، وكامنا في عوالمه المخبوءة؛ بما هو مُضَمَّنٌ في معنى لا يتم إلا بلواحقه، حين يتم الجمع بين التضمين الدلالي، والدوالّ التي تحيا دلالاتُها من خارج اللغة، كما في التضمين النحوي ب [إشراب كلمة معنى كلمة أخرى لتتعدّى تعديتها ]، سواء ما يعبر عنها مدلول المتن، أو ما يرد في الصمت الخفي، بوصفه دالا مغلقا – غالبا – ما يكون بالتضليل المفعم بالإيحاء، كما جاء في قول بول ريكور Paul Ricœur"تكمن ميزة الإيحاء في القدرة على التضليل"، الذي يضمر علامة مغيبة بين تضاعيف المتن واللامقول فيه، وفي هذا ما يدعو المتلقي إلى اقتفاء أثر معنى المسكوت عنه، الذي تنسجه علاقة البنية المغلقة في الصمت؛ بالكشف عن الفضاء الممكن تصوره في المسكوت عنه، سعيا إلى البحث عن المعنى الممكن تحققه - من خلال إظهار البنية الخفية - في اللامقول، المثقل بالمعاني المضمرة، بوصفها شكلا من أشكال الخطاب الموازي لمتن النص، الرديف للصمت، والمفعم بالمعاني، حين يظل الخطاب بحاجة إلى كنه فحواه في جميع مفاصله، إنه مرادف للغموض المعمَّى إذا ما ظلت الفكرة مستغلقة، أو ملتبسة، وهو – أيضا - علامة دالة على الحدس؛ إذا ما كان المعنى محجوبا بنقل أطراس النص إلى ما سماه رولان بارت "الدرجة الصفر من الكتابة"، وإلى حيث إبداع ألبير كامو Albert Camus بأسلوب "الكتابة البيضاء" حين اختراقه اللغة في [الغريب] مثلا ب "يوتوبيا اللغة"؛ أي بما بات يطلق عليه باللغة الواصفة، "بوصفها بعدًا من أبعاد اللغة الذاتية التي تتحدث فيها وبها القصيدة عن نفسها في موازاة حديثها عن غيرها"(محمد الغزي، وجوه النرجس ص9). إن وظيفة المضمر فيما نستنتجه من اللغة الواصفة هي في مسعى حثيث للظفر بالمعنى الموشوم في مرجعية النص قبل تدوينه، وكأن الشاعر في ميله إلى نسيج النص بالمضمر يخبر عن نفسه من خارج اللغة؛ بمواراة المعنى عوض الإفصاح باللغة، التي لم تعد تفي بالتصوير الفني، أو بالتعبير عن السريرة، نتيجة مدار الكثير من الحواجز عن الإبلاغ والإبانة، نحن إذن، أمام ثنائية الطوية في المحجوب، والسَّمتُ في الدلالة البائنة، وهي ثنائية يمكننا أن نقرأ في ضوئها جمالية الصمت وبلاغته من خلال تجربة الشاعر عبد الله العشي حين قال في قصيدة شبح الكلمات: تعبت كلماتي/رسمت على الرمل وجهي/على عتبات الغياب/بيننا لغة من هباء/وحبر تيبس في كلماتي/وأسئلة لم تصل لجواب/هكذا يسرق الوقت أحلامنا /مثلما يسرق البعد/سرَّ اقترابي (عبد الله العشي صحوة الغيم) وغير المقول في النص يتجاوز تراجع الهوية وانحسارها، كما يتجاوز النظر إلى ما تحمله مكانة الهوية من تشعب فى الطرح، وتنوع فى الانتماء، سواء من الناحية الدينية، أو القومية، أو العرقية، أو الإثنية، أو حتى فى الخصوصيات اللغوية المستلبة [بيننا لغة من هباء]، أو في اغتصاب تبصُّر أنماط الحياة [هكذا يسرق الوقت أحلامنا ] إلى غير ذلك من الظواهر التي يطرحها عبد الله العشي من هوية ثقافية، بما تحمله من معانٍ ودلالات لأنماط أنطولوجية من الوجود الحضاري، تربط الإنسان بالانتماء فى هويته المركبة، بما فى ذلك عدم الانسجام داخل كل فرد فى خياراته المتعددة - أحيانا - وفى خصوصية انتماءاته المضطربة، والمثقلة بالهواجس والريبة فى أحايين كثيرة. إن رهانات عبد الله العشي فى هذا المقام تنبني على تناول موضوع الهوية من منظور إمكان معرفة الذات، بوصفها مصدرا للتواصل مع الوجود فى جميع أشكاله، وكأن الشاعر يستقصي في المسكوت عنه مسار الهوية من منظور "كونية الاتصال": [وأسئلة لم تصل لجواب] من الوجود المغيب في هذا الفضاء الإنساني، بوصفه منبعا للرؤيا، ولكن على الرغم من ذلك: لم نُجِدْ بعدُ أرضًا تليق بأحلامنا/كل معنى يخبئ قافية في فضاءاته/هي أرض لنا/كل نبض تفيء إليه الحقول/هي أرض لنا (صحوة الغيم) وإذا كانت الهوية - بغاياتها، ومضامينها - قيمة حضارية، وعنصرا مهما من ماهية الإنسان، فإن الشاعر عبدالرحمن بوزربة، استطاع أن يصقل نصوصه بلغة شعرية مترعة بمرتكزات الهوية، ذات بعد وجداني، يجمع بين حيوية المعنى المستتر، وقوة العبارة التي نستقي دلالاتها من خارج اللغة، وسلاسة الفكرة في بطانة المعنى:/أبدًا/ لم تخُنِّي القصيدةُ قبلكِ/لم يَهربِ الشعرُ منّي../وكنتُ أميرَ الحروفِ/وسيدَها/ قبل عينيكِ/ماذا تغيّرَ؟/حتى أصيرَ بلا لغةٍ/وبلا شفةٍ/لأغنّي كما كنتُ قبل المساءِ الأخيرِ/وأجرحَ بالعطر هذا المدى/مثلما كنتُ أفعل منذ ثلاثين عامًا/وماذا تغيّرَ حتى يضيّعَني اللارجوع وحتى تضيعَ جميعُ الخرائطِ مني / وأنْحاز للصمتِ (كيمياء الدهشة والأفلفة) الهوية الناطقة ... كانت القصيدة، واللغة، والحروف في نظر الشاعر تعبيرًا عن شخوص الهوية اليقينية، على الرغم من وسمها ب [إناث] يقدمن له الولاء والطاعة، وفجأة يخيم الصمت بعد ثلاثين عاما ليتعثر الكلام، وينجبس البيان، ويغيب نهائيا، وتغيب معه كل المعدات: الشفاه، والحروف، والخرائط، وهي وسائل تدل على سبل الإفصاح، ولا يبقى إلا الصمت اختيارا قسريا، ومنفىً للذات. فماذا تغير؟ حتى يصير بلا لغة، وبلا شفة؟ تندلع صرخة الشاعر في فوهة بركان الصمت، معلنة الدخول في ثنائية الدهر [الزمن] حين يصبح الصمت ندًا للزمن الذي يستدعي الشاعر في أوجّه، صورة الفتى الذي كان:مثل صبيٍّ خجولْ/يباغته قبل عُشب الكلام الذهول../أنا سيّدُ الشمسِ والليلِ/مالي أرتّقُ/صمتيِ/وألثَغُ باسمكِ/أحبو إلى أوّلِ الحرفِ/أسقطُ في مستهلِّ الطلولْ (كيمياء الدهشة والألفة). نعتقد أن الشاعر يخاطب الهوية بطريقة غير مباشرة في صورة امرأة - من خلال ظرف الزمان - حين جعلها منفذا للدلالة على الماضي القصي " قبلك"، وفي صورة "قبل عينيك"، والحقيقة إن المخاطب هي الذات،؛ إذ يقرن الشاعر وجوده بهويته واستمساكهه بها، وهو في مسعىً لكي تشرئب إليه الآفاق، وهو يغني كما كان في عز العطاء بقوة الفتوة في الثلاثين عاما [رمز الفتوة والإقدام]، قبل أن تضيع منه بوصلة [جميع الخرائط]، وتضل به السبل بين الأوان والهوان، حتى أصبح فى موضع هوْنٍ على هوْنٍ، فانحاز للصمت، وسقطت منه عبارات الإفصاح في عدمية الكلام والحرمان من العجز عن التعبير، فاستحال إلى صومعة الصمت. والصمت هنا مساحة أكبر لقول الذات ومعاناتها مع الكتابة، بوصفها الهوية الناطقة التي يتمسرح فيها الفعل الوجودي للكائن، ومع ذلك فالقول مضلل، والزمن نافذة مشرعة على المستحيل. والشاعر الملهم يسكب كل أشجانه وهو يَعِد بتجسيد كتابة " القصيدة" وتحقيق رمزية مستحيلاتها؛ مما أثخنته الجراح: فماذا تغيّرَ؟/حتى أصيرَ/أسِيرَ الرصيفِ الذي كلّما/قيل ها عبَرتْ/يتشكّلُ خلفكِ أسرابَ شوقٍ/ويغمره شجَرٌ للبكاءْ/وكنتُ الوحيدَ الذي يستطيع الغناءْ/فكيف أصير هنا فجأةً/مُعْدَمًا/دون قافيةٍ أو/رَوَيْ (المصدر نفسه) وكأن الشاعر يقف أمام أصالته، وإحساسه بذاته، مندهشا مذهولا، لا يملك سوى التأمل الباكي على الطلول، والقلب مشرئب، والنفس يائسة من تدفق الغناء؛ هو الصمت الذي يصيّر الحرف أبكمَ، والشاعر مجردًا من دون قافية، أو روي. وتستمر العزلة في سماء الشاعر وهو ملقى في صمته المذهل، يسأل عن إيقاع الزمن، محزونًا، متألما، وشاكيا حرمانه من صوت القصائد، ورنين القوافي، يخشى الغياب، ويخاف من المحو: أنا ههنا/في عيون الجميلاتِ/من أول الوردِ/مُمتلئا بالينابيعِ والذكرياتْ/وأنصبُ في كل ركنٍ لهُنَّ/خيامًا/ وفُسطاطَ شعرٍ/وأُدهِشهُنَّ كما شئتُ/حتى عبرتِ هنا مرّةً/فاندهشتُ/وصرتُ بلا أثرٍ أو رصيفْ/كأنيّ/هنا ما عبرتُ/كأنيَ ما كنتُ/إلاّ لأجْمَعني إذ تبعثرتُ/يا كلَّ هذي العواصفِ/يا كلَّ هذا الخريفْ/ويا عطر هذي الحدائقِ/يا جمرَ كلِّ الحرائقِ/ماذا سأكتبُ عنكِ؟/وهذي الأصابعُ/تبحثُ عن حرفِها/مثلما يتحسّسُ صمتَ المساءِ/مساءَ انهمارك فيَّ/مساءَ انهياريَ فيكِ/مساءَ الذي فجأةً/لم يعد يستطيعُ/ الغناء. (مصدر سابق) وكأن الشاعر ليس له ما يقوله إزاء هذا العبء من الإرث الفكري عبر التاريخ في صورة [مُمتلئا بالينابيعِ والذكرياتْ]، و[وصرتُ بلا أثرٍ]؛ أي بلا مآب، بخاصة حين تحسُّره على عاقبته بتساؤله عن الجدوى من الكتابة، وهو يتلصص في صمت عن أصابع تجس نبض حروفها، أمام اتساع المدى الصامت للمساء؛ المساء الذي يخبئ مرايا انعتاق الذات من تجاعيد الزمن، ولا يريد أن يفرج عنها؛ هكذا تخفي اللغة نجواها، على الرغم من أنها موطن للمجاهرة حين تمارس المكاشفة، ومع ذلك فإنها أحيانا تعيض بالصمت عن سريرة الضمير، بما لم تستطع الكلمة التعبير عنه بالإبانة تظل الموسيقى أقوى من الصخب، ولذلك يلجأ الفنان إلى استلهام عذوبتها، جَذِلًا لنغماتها وإيقاعاتها، وهو مجبول على ذلك، وتظل روحه مشدودة إلى لطائف الصمت لما يختزله من قوة التأمل، وما ينفرد به من انفعال، وفي ضوء هذا الإحساس ظلت كلمات الشاعر عبد الله العشي مثقلة برنين الصمت، فيما هي تقود التجربة نحو عواصف الحرف ولهب العبارة:فجأة أشرقتْ من تخوم الضِّيا../ وأضاءت فضاءاتها/ فجأة أسدلَ الصمتُ أستاره/ فتشابكت الكلماتُ بأصواتها/ وتعثّر ظِلِّي على ضوئها/ غاب كل نِدَا/ ليس غيرُ الصدى (صحوة الغيم). مسار الخطاب الإبداعي ... ولعل في ضمير الغيبة (هي) (أشرقت) في صحة وجوده ذهنيا، ما يؤكد أن سياق الحال في (فجأة) لم تسبقه - ابتداء - قرينة ما يدل على معرفة ما تقدّمه، إلا بقدر ما علم من سياق وصف هيئة الفاعل في كلمة (فجأة) بوصفها حالا لفعل محذوف، غاب عنه المذكور المقدر ب (ظهرت هي)، في واحدة من هذه الحالات: الأصالة، الهوية، الإباء، الشهامة، العزة، الكرامة، المروءة، النخوة...وإن كل ما جاء في صيغة الفعل المحذوف، يَعيض عنه صاحب الحال في مسمى الموصوف ب(فجأة) المجردة من الضمير في محل نصب حال للانبثاق والتوقد، وفي كل ما يدل علي العظمة، وهو ما يشير إلى الدال الخفي – المسكوت عنه - على تعقب الهوية في منظور "كونية التواصل"، حيث فكرة الاستمرارية، سعيا إلى تحقيق قيمة الذات فى صلتها بالوجود، سرعان ما خَمَد صيتها، وسكن لهبها، فلم تعد تمتلك الفاعلية الاتصالية والبنائية، أو قوة الرسوخ التي كانت لها من قبل، بحيث تسمح لنا بمعرفة من نحن بوضوح، بمجرد أن نضيف مجموع أوضاعنا إلى العلاقة بهذه الهويات. إنها لم تمنحنا شفرة الهوية كما فعلت فى الماضي" (ستيوارت هول:هوية قديمة جديدة، إثنيات قديمة جديدة) (فغاب كل نِدَا/ ليس غيرُ الصدى)، إن هذا البوح في ضمير الغيبة منبثق من المعنى المشتق من المسكوت عنه، وكل ما جاء على هذا النحو هو بالضرورة منتمٍ إلى معنى المتن المتضمن دلالة الغربة:صحت: ها هي/إني أرى وجهها/هي حبري/وميلاد أجوبتي/هي أنثى الحروف التي أنجبت كلماتي،/هي ذي القصيدة/تطلع من جذر أيَّامها/هكذا سوف أبني قصيدي على نغمة/من أناشيدها (صحوة الغيم) وكون الشاعر يُجهد نفسه بالصداح المدوِّي في (صِحْتُ)؛ بصرخة الروح ما بين الألم والضياع، يضيع الحلم، حين أحس بأن مآله يلامس الهباء، بعد أن وَهَنَ الضمير الجمعي المنكسر، الذي ألزمه الفعل المتشظي، والزمان المتلاشي، والوعي المندثر، والضمير الواهي، في المسكوت عنه، الذي حال دون إعطاء اللغة نصيبها من الإفصاح، للمعنى المراد بعثه في صورة [أنثى الحروف التي أنجبت كلماتي] في إشارة إلى عملية إخصاب النسل الأصيل، والإشادة بالحضارات المتعاقبة التي عمَّرتها، وهي الصفة التي منحها الشاعر لبناء مجده في حب الهوية، والتغني بها[هكذا سوف أبني قصيدي على نغمة]، ومن هذا المنظور أصبحت الذات فى أمس الحاجة إلى تعزيز هويتها فى الوجود. لقد شكل المسكوت عنه في [دال الهوية] - من خارج السياق الذي تميزه تداعيات اللغة - نواة راسخة في بعث نص المتن، ونموه، نحو إعطاء رؤية بفعل دلالة السياق؛ لما في الذات من طوية خالية من الشوائب، وقد لمسنا ذلك من خلال التماثل الدلالي للهوية الآهلة في ضمير الشاعر، سواء ما نتأمله في المتن، أو ما عبر عنه الشاعر في المسكوت عنه بترميز الحدس الافتراضي من خارج اللغة، وهما صورتان متوازيتان يمثلان حالتي الغياب/الحضور، في ثنائية عبر عنها جاك دريدا في علاقة جدلية؛ لتحديد مسار الخطاب الإبداعي. كل مضمر مأهول بِبُدّاءةٍ حدسية عن عالم افتراضي، قد يكون موازيا لعالم النص الدلالي، وإذا كان عالم كل منهما يعبر عن وجوده في ذاته بالتخمين، فإن المضمر لتصور كل من العالمين يشير إلى معطىً، مجدٍ، قابل للتحقق؛ لأن الخيط الرفيع الذي يجمع بينهما، يربطه المضمر لطوية الذات المترقبة – افتراضا – للمأمول توقعه في صورة مصدر العلامة الدالة من سياق مضمون استقامة المعنى، أو من المفهوم الحدسي المستنبط من المتن، كما في قول الشاعر: غيمة/سوف أمحو صداها/سوف أعصر ذاكرتي/كي أطهِّرها من تواريخها/سوف أطفئ جمرتها/وأذري الرماد/على بحر أوهامها/وأميط عن الشاطئين اللثام/سأغير حبري/وأغير أبجدياتي إن استيعاب الشاعر عبد الله العشي لرصيده الأثيل أرفَد قصائده بقيمة سامقة، تصبو إلى فاعلية الرؤيا، ودافعية الإنجاز، رغبة في المندوحة، والتواصل مع هويته التي بدأ يشعر بفقدها، وكأنها تائهة على حد قول أدونيس:أمحو وجهي - أكتشف وجهي/ أيتها الأبجدية البائسة/ ماذا أستطيع بعد أن أحمِّلك/وأية غابة أزرعُ بك؟ (مفرد بصيغة الجمع) يستمر نفس كل من الشاعرين لبرهنة القرائن الدلالية للضياع في الوجدان التخيلي، المنبثق من الحرص على ذات الضمير الجمعي في مقطعي [المحو] مع عبد الله العشي في صورة [سوف أمحو صداها] ومع أدونيس في صورة [أمحو وجهي - أكتشف وجهي]؛ وكأن كليهما يتنسَّم ضياع سحر العظمة والوجاهة، بعد أن أحسَّا بانهيار مجد الحضارة العربية وإذلالها، حين أرفد كل من الشاعرين انهمار مشاعر التقصي في معنى المحو؛ بتباين الطباق بين الشائبة والطهارة، داخل الوعي كمحاولة للقبض على فواعل الضمير الواهي المغيب، وإعادة انبثاقه.