بعد رحيله في عوالم الشعر لسنوات يختار المبدع الجزائري نور الدين درويش تجربة جديدة.. بكتابة السرد الروائي، فقد صدرت مؤخرا هي رواية "وميس" ، عن دار الأوطان للثقافة والإبداع، الجزائر،2020، وفيها قصة رومانسية وعودة لذاكرة الوطن. أحداث المكان القسنطيني..... يتتبع السارد حكايات وأخبار شباب مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، ومن خلالهم تتلاحق الأحداث والمواضيع، بطريقة السرد الواقعي الكلاسيكي، لكن مع حضور لافت لمحطات السرد الشعري والتأمل الفكري والحوار الذاتي... إن السارد في الرواية-كعادة الروايات الواقعية-عارف بكل شيء ومتحكم في بناء الأحداث ووصفها وتحركتها، وتكون البطلة الفتاة وميس هي مفتاح كشف أسرار العواطف والمواقف، وقد تمكن الروائي درويش من صناعة عمل روائي يمزج بين أشواق رومانسية عذبة و بين طروحات سياسية /فكرية تؤرخ لأحداث عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن العشرين. جعل الكاتب من شخصية "هلال" أداة سردية لتبع تاريخ الصراع السياسي في الجزائر، من التجاذبات والاختلافات السياسية إلى تغيير الرؤساء، وصولا لمشاهد الحراك الشعبي، كل هذا ضمن فضاء مدينة قسنطينة التي حضرت بكل شوارعها وأزقتها وخصوصياتها الشعبية( باب القنطرة، سيدي مبروك الزيادية،الكدية...). ولا يكتفي بالتعبير الواقعي بل يوظف شعرية السرد، كلما اقترب من مسائل عاطفية وأشواق قلبية، ولا تكون المدينة القسنطينية فضاء الصراع السياسي فقط، وإنما الصراع العاطفي أيضا ،ومن ثمة سيلاحظ القارئ ان الرواية لا تسير في بناء كلاسيكي متواصل، لوجود خرق فني من حين لآخر. فيحتار القارئ بين لغة واضحة سهلة وأخرى من سحر عوالم العشق وتألق التعبير الشعري. الصراع السياسي.. نقرأ أحداث زمن التسعينات وخروج الشباب القسنطيني المناصر لحزب سياسي اسلامي-ج إ إ-، ويستعرض الكاتب التنوع في القناعات وكيف تحولت المقاهي لنوادي سياسية مفتوحة، في ظل أزمة سياسية وتخوفات شعبية، ويحيلنا ليوميات القتل وأخبار المجازر وضبابية الرؤية عن الذي حدث حينها، ونقرأ فقرات سردية فيها التساؤل عن من يقتل من ؟؟ وفيها مشاهد الرعب والخوف وأبواب حديدية تغلق على المنازل هربا من شوارع الموت. وحاول الروائي نور الدين درويش التعبير الفني عن حدث تاريخي، لكن دون الوقوع في فخ الطرح الفكري السطحي، لذلك استعان بالأجواء الرومانسية لكي يبدع رواية يتحاور فيها الشوق العاطفي بالموقف السياسي بالتأمل التاريخي. ولكي يصل لأكبر عدد من القراء. كما يحفر النص الروائي في تعدد الخطابات الاسلامية وتنوعها، بين الاعتدال والراديكالية، ولا يمكن للقارئ فهم الأحداث وتطورها السردي إلا بالعودة لكتب التاريخ والمرجعيات الدينية و -الفكرية لكثير من التيارات السياسية/الدينية الجزائرية، وقد عرضها السارد من داخل المعتقلات وكشف ممارساتها وخلفياتها وطرق تأثيرها، لكن دون الإطالة الفنية الفكرية، ليمنح المتلقي فرصة التأويل والتحليل. ملامح فنية.. في الرواية تحضر المعتقلات ومراكز الشرطة، وتحضر خطابات دينية وفكرية وسياسية ، في محاولة لتوظيف الحدث التاريخي بطريقة تكثف الحقائق والوقائع أمام وعي القراءة، وعرف الكاتب درويش كيف يختار العنوان، لأنه عنوان مغري بالقراءة ومفتوح على الدهشة و الجمال، ويجذب القراء من أصناف عديدة،و يمنح فرصة للقارئ لكي يتحرك-عند تمتعه بالقراءة- بين الرومانسية و الواقعية، أو بين صوت الحب والقلب وصوت الوطن والأزمات التي مرت به. ومن الملامح والتقنيات السردية التي وجدناها في الرواية نذكر: - حضور مشاهد الوصف لأمكنة الحنين القسنطيني و مشاهد الحوار بين الأصدقاء وفي التحقيقات الأمنية... - استعمال الاسترجاع الزمني عند العودة لأزمنة سابقة ( زمن الدراسة في الاكمالي مثلا). وقد اعتمد الروائي اللعب بالزمن لإرباك القارئ. -امتزاج الواقعي بالسحري العجائبي في لحظة الاحتجاج السياسي(ص189 ومابعدها)ن وعند وصف الفتاة وميس وصفا أسطوريا وكأنها من آلهة الإغريق أو الشرق. - الانتقال من التعبير الواضح السهل للتعبير الشاعر الصوفي. -الانتقال بين الأمكنة المختلفة المفتوحة و المغلقة (مدينة- قرية- مقهى- جامعة...) - حضور التوظيف الشعبي من خلال بعض الاغاني، وكذلك مقاطع شعرية ذاتية/ وطنية هذه قراءة في رواية جزائرية جديدة، كانت محطة لانتقال إبداعي للشاعر نور الدين درويش من عالم الشعر لعالم الكتابة السردية، و فيها كثير من التأمل التاريخي والتوظيف السياسي، مع جماليات التعبير الرومانسي.. ونحتاج لقراءات أخرى بأدوات مختلفة.. لكي نضع النص في سياقه الفني والثقافي في الساحة الجزائرية العربية.. ونحن ننصح القارئ الجزائري والعربي بقراءتها.