حينما افتقدت «فيلوصوفيا» بوصلة الحكمة والعقلانية والحرية والقيم الإنسانية لم يعد يدري طائر مينيرفا في أي وقت سيطير.. الفلسفة وقد انبثقت من زواياها أنوار المنطق والحوار والتسامح ومن إشعاعاتها بذور العلوم والمعارف التي وعدت بها، مُشعلة ضوءا إنسانيا حافلا بمغامرات العقل، تجد الفلسفة نفسها رهينة زعم وادعاء وانحراف المنتمين المزيّفين لها، ممن لم يراعوا لمبادئها ومنطقها جميلا ووفاء وولاء، وراحوا يدفعونها باتجاه كهوف مظلمة لا تمثل حقيقتها وماهيتها. هل يصدق القول بأن الفلسفة هجرت عشها الأصلي، لترتمي في أحضان حقول أخرى؟ ، وأنها باتت غريبة في عقر دارها أو أنها أصبحت تحيا حياة المنفى، تحيا على جنبات جدرانها متخفية . وبأصدق تعبير تعيش غربة الروح واغتراب الفكر، نتيجة التنكر لجوهرها من لدن من زعموا الانتساب إليها والدفاع عنها وعن روحها المرحة وعن استراتيجيها النقدية. ليس غريبا أن تجاور الفلسفة مجالات مختلفة تعايشت معها واقتاتت منها وقد تقاسمت معها الهم الإنساني منذ القديم، فرفعت صوتها الجهوري عاليا، بسمُو لغتها وعمق تأملها لتسمع صرخة الآدميين، مأساتهم ومعاناتهم. ليس غريبا أبدا عن الفلسفة لجوءها إلى الشعر والنثر لصياغة طروحاتها وأفكارها. ليس غريبا عن الفلسفة مشاركتها الفنون والآداب والعلوم، حاملة هموم المعرفة والحياة والواقع. فتاريخ الفلسفة يخبرنا بما كان لها من أواصر الاحتكاك والصداقة مع الأدب والتاريخ والفن ومختلف العلوم الطبيعية منها والاجتماعية. فلم يكن الفزيائيون والبيولوجيون وعلماء الاجتماع والنفس والشعراء والرسامون سوى حكماء وفلاسفة وأنوار تضيء عتمات الدروب التي سلكوها برؤى وإن اختلفت في تمثلاتها للظاهرة أو الواقعة المدروسة، لكنها تنبئ في تأملها النهائي عن زاوية أخرى لمقاربة ما تقع عليه عين الشاعر أو الفنان أو العالم أو الطبيب أو الأديب. ينبئنا تاريخ الفكر البشري وبكثير من الأسى والحسرة عن تلك الصراعات التي شهدتها أشكال التعبير الإنساني. وكيف رأى كل شكل منها في كل حقبة من تاريخ البشرية، أحقيته بالريادة والأسبقية لقيادة وتتويج المعرفة الإنسانية. وبدلا من التخلي عن النزوع لاحتكار الحقيقة وتجسيد مبدأ النسبية الثقافية، ادّعى كل شكل من أشكال التعبير صدقية ومصداقية رؤيته، مقصيا ومستثنيا الأشكال الأخرى. لكن مع بروز العلوم مستقلة وتواجدها في محراب البحث الأكاديمي، وتزايد وتيرة التخصص، أضحت المعرفة المتنوعة متواجدة ومتجاورة في صعيد واحد، تضمن نموه وترقيته وإبداعه الجامعة بما في ذلك الفلسفة التي صارت فرعا من بين فروع المعرفة، بعد أن كانت أمًا ومصدرا لكل معرفة. فهل في هذا الرأي ما ينطبق على واقعنا الدراسي والبحثي والثقافي عامة؟ لا تزال منزلة الفلسفة تحظى بتقدير وتبجيل على مستوى ثقافي عالي، خاصة في الثقافة الغربية، وإن لم تعد كما أرادها « كانط « محكمة للثقافة؛ إنما باتت صوتا من بين أصواتها المتعددة والمتنوعة كالعلم والأدب والفن والشعر. بينما تتأرجح في منظومة التعليم والبحثي بين وثبة هناك وتقهقر كبير هنا، بين سمو ورفعة كمعيار للتقدم عندهم وتراجع ورمز للتكفير عندنا، بين وضوح الفكر وتمسك به وبجديّته وبين غموض وتخلّي عن العقل وأدواته. إنها باختصار، نكبة العقل العربي الراهن وتقهقر طموحه. فبعد أن جدّد مقترحاته ومشاريعه في نهضة عربية شاملة، ها هو اليوم يعلن عن فشله وعدم قدرته على التمسك حتى بأمله في التغيير؛ بل إنه أصبح يبكي ماضيا كانت له فيه حيويته الفلسفية وتطلعاته المشروعية، في الحرية والعدالة والتنمية والديمقراطية. ومن يبحث فاحصا راهن هذه الآمال ومصيرها ستصدمه الأحداث والآجال المنتهية لأن التاريخ لا يمنح فُرصَه للأغبياء.