عندما يهتم الفلاسفة بالشأن السردي والفني عامة، كتابة ونقدا فإنهم مؤهلون لتطعيم المحكيات بزاد يجعلها مفتوحة على الأفكار والأسئلة التي يحتاج إليها القارئ المنبه، ومن ثمّ إمكانية استمراريتها في الزمن بحمولة معرفية مفتوحة على الممكنات التأويلية، بصرف النظر عن الحكايات كجزء من أجزاء العمل الأدبي الذي لا يختزل نفسه في الأحداث والأوصاف والحالات التبسيطية التي ينقلها برومانسية فاخرة. ذاك ما قام به الناقد الايطالي أمبرتو إيكو (1932 2016)، الكاتب والسيميائي والأكاديمي اللاديني الذي يصف نفسه، بتواضع كبير رغم شهرته، بأنه الفيلسوف الذي يكتب الروايات، و«الكاتب الناشئ" الذي بلغ سن الخمسين وأصبح مكرسا عالميا، كمبدع وأكاديمي. لقد نظر إلى النص كمجموعة من المعارف والجماليات. عرف بعض مواطني الكوكب الافتراضي هذا المفكر والأديب بمقولته الشهيرة التي غدت متداولة في العالم الأزرق منذ سنين: " أدوات مثل تويتر وفايسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أمّا الآن فلهم الحق في الكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء". لقد كان حذرا من أدوات التواصل الجديدة التي بدّهت المعرفة البشرية برمتها، ومن بعض تأثيراتها السلبية على المجتمعات والعقل والبحث كقوى ضاغطة يتعذر الاحتكام إليها وتصديقها من الناحية العلمية: " الأنترنيت وسيط شاسع وغشاش وفضيحة ذاكرة من دون غربلة، حيث لم نعد نميز بين الخطأ والحقيقة، لذلك قادنا إلى تراجع ثقافي". لقد أتى " أمبيرتو إيكو "، إضافة إلى رواياته التي تُرجمت إلى عدة لغات عالمية، بآراء وقضايا نقدية مثيرة أسهمت فيها قراءاته للتاريخ والواقع ومستجدات التكنولوجيا الجديدة، وهناك اهتماماته بالدراسات السيميائية التي ستنعكس على مؤلفاته وأقواله بنباهة العارف، بداية من عنوان رواية " اسم الوردة " العتبة التي انتقاها بعد بحوث معجمية موسعة شملت عدة كتابات تناولت دلالة الكلمة، انطلاقا من مؤلفات القرون الوسطى، كما يشير إلى ذلك في كتابه "حاشية على اسم الوردة"، وهو كتاب يستدعي عدة قراءات متأنية بالنظر إلى هيبته المعرفية الكبيرة كتجربة استثنائية في الحديث عن فعل التأليف، إلى جانب ذلك، هناك مؤلفه الهام الذي يحمل عنوان: " نزهات في غابة السرد" وهو يقدم ملاحظات غاية في النباهة. « أمبيرتو إيكو " يصدر عن مدارك متقدمة للعلامة السردية ورمزيتها، لمفهوم الكتابة واللفظة والتركيب والمتلقي والصورة والشكل والمرجعيات، حتى عندما يتحدث عن حكايته الخاصة التي لا تعني أحدا. إنه يتناول ذلك بمنطق السيميائي الذي شحذته الملاحظة ، فقام بتوسيع وظيفة المتلقي بإعادة النظر في مسألة التأويل ذاته كمقاربة متحولة للنص، غير مستقرة أبدا، ومستحيلة لأنها ترتبط بالتموقعات الممكنة، وهي كثيرة ومتضاربة: "من أجل إنقاذ النص على القارئ أن يتخيل أنّ كل سطر يضمر دلالة خفية، فعوض أن تقول الكلمات فإنها تخفي ما تقول. إنّ مجد القارئ يكمن في اكتشاف أنه بإمكان النصوص أن تقول كلّ شيء باستثناء ما يريد الكاتب التدليل عليه. في اللحظة التي يتم فيها الكشف عن دلالة ما، ندرك أنها ليست الدلالة الجيدة، الدلالة الجيدة ستأتي بعد ذلك. إن الأغبياء هم الذين ينهون التأويل قائلين: " لقد فهمنا. إنّ القارئ الحقيقي هو الذي يفهم أن سرّ النص يكمن في عدمه". مسألة القراءة والفهم والتأويل والعلامات عند " أمبيرتو إيكو" قضايا نسبية تتطلب استدعاء بعض المؤثرات الخارجية الموجهة للمتلقي، وإذا كان علم السرد السبعيني مع " جيرار جينيت " قد اهتم بزوايا النظر التي توجه الموقف من المادة المبأرة، من الشخصيات والأشياء في النص المغلق على ذاته، فإن إيكو، على شاكلة ما يقوم به علم السرد التجريبي في أمريكا، منح مرجعية القارئ قيمة اعتبارية لأهميتها في التعامل مع الأثر الفني، ومن ثمّ إمكانية قيامها بالضغط على وجهة التأويل ومآلاته. إنه يتقاطع، في هذه النقطة تحديدا، مع موقف علم الترجمة من كيفية التعامل مع بعض الملفوظات والحقول المعجمية التي أنتجت في بيئة مخصوصة تستدعي الاحاطة بها للاقتراب من الدلالة، ومن ثمّ التمييز بين الوضع والاستعمال، من المنظور السيميائي، ويقصد بالموقف"الحالة الثقافية" للمنجز التي تعد أساسية في النقل من لغة إلى أخرى، دون الوقوع في الحرفية المضللة، أو في اللادلالة بسبب التعامل الباهت مع التجليات اللفظية والجملية. يقول إيكو: "هناك خزانة اجتماعية لدى كلّ قارئ يتم الاحتكام إليها خلال القراءة والتفسير، وهي لا تقتصر على لغة ما بوصفها قواعد نحوية، وإنما تشتمل على الموسوعة الكاملة التي حققتها آداءات هذه اللغة، ويطلق عليها التقاليد الثقافية التي أنتجتها هذه اللغة، وتاريخ التفسيرات السابقة لعديد من النصوص، مستوعبة النص الذي يعمل المتلقي على قراءته".الأمر يتعلق إذن بضرورة معرفة هذه التقاليد المساعدة على الفهم لأنها جزء قاعدي من مكوّنات النص الذي ينتجه الكاتب انطلاقا منها، أو تلك التي يتحرك داخلها، متكئا على منظومة من العلامات الممتلئة دلاليا في بعض الحالات. أمّا المتغيرات التأويلية فترتبط، بالضرورة، بطبيعة هذه الخزانة التي يستعين بها القارئ، وبمدى قدرتها على استيعاب ما يُكتب انطلاقا من مرجعية ما، وبلغة مخصوصة لم تخلق من العدم. هذه الخزانة، على قيمتها الكبرى، قد تتسبب في تشتيت الفهم لأنها جمع، وليست واحدة، لذلك يتجه النص نحو السديم تحت ضغط مرجعية القراءات المختلفة من حيث السند، شأنه شأن الصورة التي تظلّ في علاقة مباشرة بمستويات التلقي التي تؤسس على القراءة الذاتية، أي على مرجعية ذات هوية مستقلة عن الهويات المستقبلة للموضوع نفسه: " الصورة تملك قوة لا تقاوم، لكنها تكذب لأنها تعطي المجال للعديد من التأويلات". إننا أمام انفتاح المقاصد وصدام التأويلات التي تبني على منطلقات متباينة، ومتضادة أحيانا، اجتماعية أو عقائدية أو نفسية أو أيديولوجية أو أنثروبولوجية أو سياسية، وكلما تعددت الخزانات المرجعية اتجه المعنى نحو حالة من العمى، أي نحو اللامعنى. لقد عاش " إيكو" لطرح أسئلة متجددة على الأدب وعلم العلامات واللغة والبلاغة، وذلك تفاديا للمعياريات اليقينية التي فرضتها بعض الكتابات والدراسات التي استنزفت بفعل المعاودات النمطية للآليات التفكيكية، وظل يفكر في منظومة علاماتية متحررة من النموذج كسيميائي قدم مؤلفات عبقرية، ومنها كتابه الشهير"البنية الغائبة" الذي سيصبح هالة عالمية تتناول عوالم الشفرات في علاقاتها مع الأيديولوجيات والأنساق في أواسط الثمانينيات: "العالم يتفجر داخل شبكة من الاتصالات ذات صلة قرابة، فكلّ شيء يشير إلى كلّ شيء، وكلّ شيء يفسر كل شيء". إنه التداخل الكلي ما بين الأشاء والمعارف. كان " أمبرتو إيكو" شديد الاهتمام بالواقع اللغوي، بجزئيات الحضارة، بالتكنولوجيات، بحال الأدب وآفاقه، بوظيفته الاجتماعية واللسانية، بمكوّناته وطرائقه التواصلية ومعجمه، بالتاريخ والأمانة، لذلك يصرح: "صلاح الدين الأيوبي لم يكن متعصبا، بينما ذبح الصليبيون الجميع عندما دخلوا القدس، عفا الأيوبي عن غالبية المسيحيين عند دخوله المدينة ذاتها". لقد اشتغل على عدة جبهات ليمنح النص بطاقة ثبوتية دالة على قيمته التكوينية، وظل يسأل اللفظة والجملة والتراكيب والدلالات الممكنة، بعيدا عن التأثيرات الأيديولوجية والانتماءات والمركزيات الغربية التي عادة ما أسهمت في قلب الحقائق لأهداف براغماتية. قال إيكو في اختزال منظوره للأدب كقيمة تاريخية وفنية لا ترتبط بالظرف والطارئ: "إنه لشخص غير سعيد ويائس ذلك الكاتب الذي لا يستطيع مخاطبة قارئ المستقبل". هل كان يقصد التمييز بين الكتابة الاستعجالية والكتابة التي تبحث عن خلود الكلمة عبر الوقت بالتطلع إلى الأفق حيث يسكن الكاتب العميقوالكلمة التي تخترق الأزمنة والحدود الجغرافية،وحيث الذوق الذي لا يتأثر بالمتغيرات؟ ربما كان على كثير من الكتّاب التفكير مليّا في هذا السؤال الذي يقوّض فهمنا للإبداع. الكتابة جزء من الماضي والحاضر، لكنها ممتدة في المستقبل، وإن لم تكن كذلك فإنها تخاطر بديمومتها.