توطين الأعمال الأدبية حتمية تفرضها الترجمة المهتمة بمحيط الخطاب وسياقات إنتاجه. لذا سعينا في التعامل مع مسرحيات كاتب ياسين إلى الاشتغال على المعجم بروية، محاولين التدقيق في الكلمات التي تحتاج إلى إحاطة خاصة من أجل تبيئة مؤسسة على مرجعيات ضابطة، وذلك تأسيسا على الحالات الثقافية، وداخل اللغة المعيارية الواحدة. إضافة إلى القاموس، هناك البنى والأساليب التي تحتاج إلى قراءة مخصوصة تفي بغرضي الفهم والتمثيل. تعاملنا بطريقة توفيقية إلى حد ما: الحفاظ على اللغة العربية، لأن الترجمة موجهة إلى القارئ العربي، وموازاة مع ذلك، سعينا، في حدود الإمكان، إلى انتقاء المعجم القريب من المحيط الخارجي . لذلك ظهرت بعض المستويات اللغوية. كما أننا لم نغفل الخصوصيات الجملية كهوية، ومن ذلك كيفية التعامل مع التقديم والتأخير كعينة دالة على أشكال التداول، مثلما فعلنا أثناء ترجمة رواية نجمة، إذ لجأنا، في حالات، إلى تقديم الفاعل على حساب الفعل، أو بدأنا بالجملة الاسمية، وهي طريقة التخاطب المتداولة. أول ما قمنا به، بالنسبةلمسرحية محمد خذ حقيبتك، إعادة النظر في العنوان، وهكذا أصبح: محمد ارحل. ذلك أن الصيغة الفرنسية توحي بذلك، في حين أنّ العنوان المتداول، هو ترجمة حرفية قد لا تفي بالغرض. لقد فكرنا، في البداية، في عنوان آخر: محمد اذهب، وهو قريب من المقصد، ذلك أنّهذا الفعل له دلالة مخصوصة في العامية الجزائرية، لكنه لا يفي بالغرض عندما يتعلق الأمر بترجمة موجهة إلى المتلقي العربي، ومن ثمّ يغدو التوطين فعلا معرقلا للفهم، مع أنّ هناك بدائل أخرى ممكنة. الترجمة والمعجم: قد لا نتفق مع بعض ما ورد في تقديم المسرحيات بالفرنسية بالنظر إلى بعض المغالاة والذاتية، رغم قيمة التقديم، من الجانبين التاريخي والتوثيقي. لم يخرج كاتب ياسين عن المعجم والتراكيب المتواترة. هناك فقط بعض الأسماء التي وظفها للتفكه، ومن ذلك بودينار. لذلك لم نجتهد في البحث عن مقاصدها، على عكس ما ورد في التقديم الذي تحدث عن الابتكار وكسر اللغة، ثمّ إنّ الأسماء الشاذة لا تحتاج إلا إلى تهميش، ما عدا إن كان ضروريا، مع أننا لا نرى أي تحديث فعلي يستحق الإشارة إليه في هذا السياق. وبالمقابل ، قد تطرح كلمات نادرة إشكالا لصعوبة العثور على معناها، ومنها كلمة " أنافرازي"، التي نحتت من ثلاث كلمات: الحمار الإفريقي الآسيوي، لتشكل مجتمعة كلمةاستعملتلترقية عنصر الإضحاك. لقد كان من الممكن أن نلجأ إلى نحت كلمة بالعربية. لكننا ارتأينا عدم القيام بذلك تفاديا لإرباك القارئ. لذا حافظنا على الكلمات الثلاث، دون اللجوء إلى الحلول التي لا تقدم خدمة إلى الترجمة لأنها تتطلب تهميشا إضافيا. الترجمة في مواجهة اللادلالة : لاحظنا في هذه المسرحيات نزوعا نحو توظيف مقاطع وحوارات شعرية في عدة صفحات غدا فيها الشعر موضوعا. لم يتخل الكاتب عن ميوله المعروفة في نصوصهالسردية، وخاصة في رواية نجمة التي تخللتها مقطوعات شاعرية يصعب استيعابها لتقاطعها مع مدارس أدبية، كالمذهب الدادائي، أو بسبب قيامها على الفن من أجل الفن. كان كاتب ياسين يراهن، في بعض المقاطع، على الجمال الغاية، وليس على الموضوعات التي تتراجع إلى درجة أدنى، وقد تغدو ليست ذات قيمة اعتبارية لأنها ستصبح ثانوية بتنازلها عن وظيفتها لفائدة الشعر والمقاطع الشاعرية. الظاهرة ذاتها ستنتقل إلى المسرحيات بدرجات متفاوتة. نجد في النثر سردا ميالا إلى الشعر، أمّا المسرحيات فقد استثمرت في القصائد المسترسلة: تضمين مقاطع الشعرية، أو جعل الحوار بين الشخصيات يخضع لنظام القافية، كما لو أنه قصائدموزعة على المتحاورين. ما يعقد مهمة المترجم الذي سيقوم بجهدين: ترجمة النصوص، وتقفية الأبيات، إضافة إلى البحث عن إيقاع مناسب احتراما للأصل الذي راهن على ذلك. ربما واجه المتلقي لبسا على مستوى المقاطع المبنية على الرمز والتصوير والتشبيه والاستعارات التي تتوالد من نفسها، دون دلالة واضحة. سوف لن يطرح ذلك مشكلا كبيرا للترجمة، رغم المتاعب الممكنة. لكنّ هذه المقاطع، سواء كانت من التناصات الخارجية، أو الداخلية، كالاتكاء على المستورد من نصوص نثرية للكاتب نفسه: دائرة الانتقام مثلا، ستعرقل الاقتباس والإخراج والتمثيل إن بقيت كما هي، دون تعديل أو تصرف، ونفس العوائق ستواجه القارئ والمشاهد بالنظر إلى غموضها الكبير، مع أنها جميلة لذاتها. لا يمكن للمترجم التصرف في خطاب ينافس الشعر، رغم أنهغريب، ولا دلالة واضحة له لأنه غارق في نوع من الترف الذهني العابث. سيكون التصرف خيانة للنص القاعدي الذي قصد التعتيم على المعنى بترك المقاطع قابلة لتأويلات يتعذر ضبطها. هناك خطاب لا دلالي، لا زماني، ولا مكاني لأنه ينحسر في الذهن، مع ترقية واضحة للمتخيل الذي سيلعب دورا معتبرا في إخفاء المعنى من وراء تكديس الجمل الهلامية، وستكون القراءة، كما الترجمة، متفرجة على ممكنات الدلالة العصية، لأن هذه الدلالة غائبة، ولا يمكن العثور عليها، مهما كانت عبقرية القراءة وأدواتها. يمكننا اعتبار هذا الخطاب اللادلالي ، على قلته، جزء من استراتيجية كاتب ياسين، وامتدادا لبعض نصوصه. نشير مثلا إلى رواية نجمة التي حملت مقطوعات غير قابلة للشرح، ومن ثم استحالة فهمها وتمثيلها مسرحيا ما لم نتجاوزها أو نتصرف فيها عند الكتابة الاخراجية. سنجد أنفسنا أمام خطابات كتبت لذاتها لأنها لا تقول شيئا واضحا. ربما عثرنا على بعض ظلال المعنى، لكنّ هذا المعنى سيتقهقر عندما تركب الجمل في متواليات، وهكذا تضيع كل آثار الدلالة تاركة مكانها لتلوينات شعرية مكتفية بالشكل والايقاع. تتحدث هذه المتواليات عننفسها بنفسها لأنها ضرب من اللعب باللغة من أجل اللغة والصورة والاستعارة. لن يجد المترجم صعوبة في التعامل مع المعجم والجملة والبنى لأنّ اللغة في متناول المتلقي، ما عدا في حالات محدودة، لحظة استعمال المعجم الطبي مثلا. ما يدفعه إلى الاستعانة بالقاموس المتخصص. أما تعدد الأصوات فلم يشكلعقبة، ولم يؤد إلى تعدد المستويات اللغوية الدالة على التنوع، بمعنى أننا لا يمكن أن نتحدث عن لغة حِرفية إلا نادرا. ثمة مستوى واحد لأنّ الكاتب لم يبئر على هذه الخاصية التي قد نجدها في كتابات تركز على هذا الجانب لإيمانها بضرورة احترام الانتماءات، بصرف النظر عن المقاصد الفعلية،كما يحصل في بعض النصوص التي نزلت بهذا الفهم إلى مستوى ساذج. أمّا في حالة هذهالمسرحيات التي شهدت هجرة من العامية إلى الفرنسية إلى العربية الفصحىفيجد المترجم نفسه مرتاحا، كونه لن يشتغل على هذه الفروق المحتملة لأنها غائبة في النص الفرنسي. ربّما قصد ذلك لغايات، مع أنه منخرط في الأوساط الشعبية، وأحد الداعين إلى اللغة الثالثة. يمكننا أيضا اعتبار مسرحية شبح حديقة مونصو من أسهل المسرحيات القابلة للفهموالترجمة، ليس انطلاقا من الجانب المعجمي أو الأسلوبي أو البنيوي، إنما بالعودة إلى انعدام النصوص المرجعية التي تستدعي بحثا موازيا، أي لخفوت الإحالات التي تسهم في تعقيد النقل بالنظر إلى تنوّع هذه المرجعيات التي قد لا تدرك بسهولة، خاصة إن كان المترجم من بيئة أخرى، أو من ثقافة مختلفة ليست ذات علاقة بمنظومة العلامات التي تشكل هويةالنص. مسرحية شبح حديقة " مونصو" خالية من أسفار النصوص إليها. لكنّ ذلك لا يمنع من وجود فترات تستدعي قدرات ترجمية كبيرة، بداية من مستوى المعجم، وصولا إلى بعض المقطوعات المعقدة، وتحديدا تلك التي ترد في شكل سرود شعرية متشابكة، مع أنها جزء من الحوارات التي كان يفترض أن تكون أقصر، وأبين من جانب الشكلوالمعنى حتى يسهل تمثلهاوتمثيلها على الركح، شأنها شأن بقية النصوص. .