كلِمةُ عِرفانٍ بعالِمٍ على هوامشِ رسالةٍ أكاديْميَّة كنتُ قد أسْريْتُ إلى صديقيَ الغالِي: الناقدِ الشَّاعر الجزائريِّ القدير؛ يوسف وغْليسي بِمقالةٍ نقديَّةٍ .. مُلْتمِساً منه رأيَه العلميَّ الشَّفيفَ بشأنِها، فكان أن حبانِي بردٍّ تاريْخيٍّ .. إذ وصَف لُغتِي بأنَّ فيها شيئاً من سِحر اللُّغة المرتاضيَّة .. فاغتبطتُ كطفلٍ، وانتفَضْتُ " كما انتفَض العصفورُ بلَّلَهُ القَطْرُ " ! ثُمَّ بدَرْتُ إلى حاسوبِيَ الحميم، وفتحتُ فيشيِيهًا أزرقَ، ووقفْتُ أمامَ البحر لا أعرف من أيِّ جهةٍ أدخلُه، ولا أعرف من أيِّ جهةٍ أخرج منه .. فكان أنِ احتفيْتُ بِجَهْبَذ الجهابِذة، وعملاق العمالِقة فِي النقد، والكتابة الأدبيَّة: الدكتور عبد الملك مرتاض على هذه الشَّاكلة: @@@ حقّاً، ثَمَّة شيءٌ ما، فِي مقالتِي هذه، يُشاكِهُ، أو يُحاكي إيقاعَ الكتابة الْمرْتاضيَّة. وهنا، أستأذنكَ، أستاذيَ العزيز يوسف، لأنْحنِيَ انْحناءةَ تقديرٍ أمام القامة الباسقة للعلاَّمة عبد الملك مَرتاض كما تَحلو للمشارقة تزكيتُه، ونَحن، الجزائريِّين، أوْلَى، أوْلَى منهم بذلك. فحاشا أن تساويَ لغتِي برمَّتها حرفاً واحداً من اللُّغة الْمرْتاضيَّة .. وحاشا أن أساويَ بكامل جسْمي خليَّةً واحدةً من خلايا العقل الْمرْتاضيّ .. لكنَّنِي أهْفو، فِي هذا المقام الجليل، إلى التصريح بأنِّي لَمْ أقرأ للرَّجُل، قراءةَ العمق والتنَطُّس، أكثرَ من مؤلَّفين مِحْوريَّيْن، أو ثلاثةٍ، على أنَّنِي طالَما تقَفَّيتُ أثَرَ المنْزع النقديِّ، والبصمةِ الإبِسْتيمولوجيَّة فِي بطائن كتاباته معظمِها مذ كنتُ طالباً فِي طور الثانويَّة. كأنَّنِي لَمْ أقرأ مرْتاضاً، وإنَّما قرأتُ الْمُرْتاضيَّة. أريد إلى القول إنَّنِي حقّاً قد تأثَّرتُ بالعلاَّمة عبد الملك مرتاض، لكنَّ بؤرة التأثير فِيَّ كانت من طريقته الفريدة فِي مُمارسة الفِكْر، ومن أرْيَحيَّته السَّاحرة فِي نَسْج الكلام، وسَبْكِ التعابير، والجُمَل الرصينة .. (أومئ هنا إلى أنَّنِي أتَحفَّظ من ظاهرة الفُضْلة اللُّغوية التِي غالباً ما تَخدش حيادَ البِنْية التفكيريَّة المرتاضيَّة). دعنِي أقول: إنَّ عبد الملك مرتاض عالِمٌ عربِيٌّ هجِّيراهُ تعميقُ الفكرة، وتَجْنيحُ اللُّغة. وأمَّا (أنا) .. فحين تأثَّرْتُ بلُغته، تأثَّرتُ أكثر بعشْقه الربَّانِيِّ، القرآنِيِّ، القوميِّ، الوطَنِيِّ للغة الضَّاد. وإذَن، هل بوُسعي القول إنِّي منفعلٌ بالغياب الفكريِّ الذي ما لبث يتركه هذا العالِمُ الجليلُ، والمفكِّرُ الدَّليلُ، إن قصْداً، أو كبْواً، منثوراً شذَرَ، مَذَرَ بين حنايا مؤلَّفاته الثرَّة ؟ لعلَّنِي أستأنس، فِي بعضٍ من كتاباتِي الأكاديْميَّة، بتلك الاستبداليَّة الفكريَّة التِي تعبَق بِها نصوصُه. لعلَّنِي أستعير، بنحوٍ لاإراديٍّ، بعضاً من معاول إبِسْتيمولوجياهُ، وأنطولوجياهُ، وإيديولوجياهُ ... بعضاً من نفَحَان نفسانيَّته النقديَّة .. أو قُلْ لعلَّ روحيَ مسكونةٌ بغياب عبد الملك مرتاض، لا بِحضوره، لعلَّ عقليَ الباطنَ مطمورٌ بنقدانيَّة عبد الملك مرتاض، لا بنقْده. شأنِي شأنُ المُشاهدِ المُتفرِّج الذي يصْدِف - إن حذَقاً، أو فضولاً – عن تتبُّع ما تُبئِّره واجهةُ اللَّقطة إلى إمعان المُشاهَدة فِي الوقائع الجانبيَّة التِي تقْبَع على خطِّ " عمْقِ المجال "، أو تَتَهَسْهَسُ خارجَ الإطار، خارجَ مَجال الرُّؤية. مُحمَّد عدلان بن جيلالِي. وهران فِي: 12/ 02/ 2014. وأمَّا القصيدةُ، فإلى اليوم لَم أعرف شيئاً عن وِجْهة نظر عبد الْملك مرتاض فيها. أظنُّنِي قد أكلْتُ من تُفَّاح شَجرة جنَّة الشِّعر ! @@@ بلَغْنا وِهرانَ مساءً .. لَم ينَلِ التعبُ من جسدي خليَّةً واحدة. وظَلَلْنا نتبادلُ الفِكَر، والآراء .. حتَّى توقَّفتِ السيَّارة عند عتبة البيت: بدَرْنا أنا وصديقي الدكتور إلى توديعِه، لكنَّه سألَنا التريُّثَ هنيْهةً من الوقت. وَلَجَ بيته، ثُم عاد إلينا مُناديًا باسْمي .. يا لَروعةَ اسْمي وهو يَخرج من شفتَيْ عالِمٍ جليل. أدْخَلَنِي بيته، ثُمَّ أوقفَنِي أمام مكْتَبته الطويلة العريضة .. - لك أن تنتقيَ من كُتُبِي، ورواياتِي .. ما تشاء. فوقفتُ مشْدوهاً دائخاً .. كمَنْ يقف أمام ماردٍ خرَج للتوِّ من قُمْقُمه .. فقد أهدانِي هذا الرجل العظيم آخر إنتاجاتِه الفكريَّة تاريْخئذٍ: (علْم السياسة وقوام الرئاسة). وأهدانِي، أيضاً، أعمالَه السرديَّة الكاملة الصادرةَ فِي أربعة مُجلَّداتٍ عن منشورات مُختبَر السرد العربِيِّ لِجامعة منتوري بِقسنطينة عام 2012. لَم أعْرِف كيف خرجتُ من بيته، ولَم أعْرِف كيف دخلتُ بيتِي .. فرَحاً واعتزازاً بالغنيمة الْمُقدَّسة ! @@@ لَمْ يُعْطِه حقَّه من التقدير، والتكريْم .. ذلك الإعلام الْجزائريُّ الفَطيرُ الذي لَم يبْرَحْ مُسَوِّقاً لشَبابيط الفكر، وطُفَيلِيَات الثقافة (من دون تعميم). هنا، غُزاةُ الأقْنِية الفضائيَّة، الرسميَّة والخاصَّة، من وجوه الفكر والثقافة؛ أجسامٌ عريضةٌ، وعقولٌ مُسطَّحةٌ .. ذواتُ بُعْدَين كسَمَك الشبُّوط ! وأمَّا هذا العقل الاستثنائيُّ؛ العلاَّمة عبد الْملِك مرتاض .. فيعْرفه الْمشارقةُ أحْسن مِمَّا يعْرفه الْمغارِبة .. يا أستاذيَ الغالِي .. عبدَ الْملك مرتاض .. نَحن هنا أمام خَيارَين اثنين: فإمَّا أن نَخْرُج نَحن من عصْركَ، لأنَّنا لَسْنا فِي مستواك، وإمَّا أن تَخْرج أنتَ من عصْرنا لأنَّك كثيرٌ علَينا، كثيرٌ على هذا العصر الْهُلاميِّ المقلوب .. @@@ لا أقولُ إنَّكَ أجْدَر بِجائزة نوبل للآداب .. لأنَّك، والْحقُّ يُقال، أكْبَرُ .. أكْبَرُ من هذا الوسام. ولا أسْألُ الله أن يُطيل فِي عُمْركَ .. يا سيِّد الأزْمِنة ... لأنَّك سَوْف لن تَمُوتَ أبدا.