من بين آخر إصدارات الباحث والروائي الراحل خليفة بن عمارة (1947-2021) مجموعة قصصية تحمل عنوان: "قصص من الجنوب"، وقد صدرت سنة 2014، عن دار التومي للنشر بسيدي بلعباس، وتقع في 174 صفحة. تضمّ المجموعة 13 نصا قصصيا، يقسّمها المؤلف إلى قسمين: القسم الأول ويضم ثماني قصص، يخبرنا أنها مستلهمة من أحداث واقعية؛ في حين يتضمّن القسم الثاني مقاطع من رواياته: "يوميات ثائر" الصادرة سنة 2005، "الكلمة المخنوقة" الصادرة سنة 1990، وأخيرا "الانسلاخ" الصادرة سنة 1985. تذكّرنا قصص خليفة بن عمارة من خلال هذه المجموعة، بالقصص الكلاسيكية المشوّقة التي كتبها على طريقته الخاصة القاص الفرنسي غي دي موباسان والقاص الروسي انطوان تشيخوف، المستمدة أغلب أحداثها من الواقع المعيش والمعتمدة على عنصر الحكي أساسا، بعيدًا عن التكثيف والاقتصاد في اللغة، وخاصة الرمزية الطاغية على سرد أسّسه رواد ما يعرف بالرواية الجديدة، التي ألهمت العديد من كتّاب القصة القصيرة الكتابة على منوالها، مما أخفت من بريقها، كما لاحظ العديد من النقاد. من بين القصص الملفتة للانتباه، قصة مؤلمة ومؤثرة، عنوانها: "قدر الضاوية". تتناول مسار فتاة شابة انتحرت سنوات الثمانينيات؛ حادثة هزت أركان بلدة العين الصفراء، بين متعاطف ومستنكر، لم يلبث أن طواها النسيان لولا قلم الكاتب بن عمارة، الذي أخرجها من غياهب النسيان، ليتيحها حتى لا تتكرر المأساة، نصًا مفعما بالإنسانية. "الضاوية" اسم فتاة شابة، كانت صباح ذلك اليوم شاردة البال، إثر نقاش حاد مع أبيها، قض مضجعها، قال لها والدها مصمما: "لقد أعطيته موافقتي، ثم أن زوجته وأبناءه سيبقون في منزله الحالي، بينما ستسكنين أنت في منزل خاص بك لوحدك. هيا كوني عاقلة، يجب تحديد موعد الزواج.. بطبيعة الحال أفكر في مصلحتك، ستلحقين بي العار لو ترفضين هذا الزواج، هل تريدين أن أكون أضحوكة بين الناس؟". ألحّ أبوها مصرًا على زواجها من رجل يكبرها في السن، متزوج ولديه أطفال، وزوجة مريضة، وهي التي لم تكد تبلغ 18 من العمر. باءت بالفشل جميع محاولات أمها لإقناع الأب ومنع الزواج. ذكرته أن الضاوية، كانت مرتبطة بقريبها الذي تعلق بها وتعلقت به، منذ الصغر، كبرت معه في البادية وفي البلدة، وكان يحلمان بالزواج. يومان بعد الحادثة المأساوية، جاء شرطي إلى منزل أب الضاوية، سلمه ظرفا بداخله ورقة صغيرة ، كتبت عليها بخط مرتجف: "سامحوني، حلفت له". سامحوني لقد أقسمت له؛ نقلها خليفة بن عمارة، كما جاءت بالدارجة، كانت أقوى وأعمق، ثم ترجمها إلى اللغة الفرنسية. مجموعة "قصص من الجنوب": نصوص تنطوي على الكثير من المعاني والدلالات الإنسانية، كتبها خليفة بن عمارة بأسلوب بسيط ومباشر، يقول أشياء الحياة دون لف أو دوران؛ تستحق أن تحظى بتوزيع يتيح قراءتها لشريحة واسعة من القراء عبر الوطن، كما تستحق الترجمة إلى اللغة العربية. للإشارة من بين جميع الأعمال الروائية التي أصدرها خليفة بن عمارة، هناك عمل وحيد، تمت ترجمته إلى اللغة العربية، يتعلق الأمر بالرواية التاريخية الموسومة: "الحلم والملك" الصادرة سنة 1999 عن دار النشر دحلب، والمترجمة من طرف الأستاذ قندوسي محمد. آخر ما كتب خليفة بن عمارة رحمه الله، ولا يزال مخطوطًا، كتاب يتضمن تفاصيل سفره لأداء مناسك الحج سنة 2009، عن طريق البرّ، بسبب عدم قدرته على السفر جوًا. كتاب لم يتح له نشره؛ كنت مع الراحل نفكر في ترجمته إلى اللغة العربية، لو لم يداهمه المرض. رحلة شاقة ومشوّقة في آن معًا، قادته على متن سيارته نحو البقاع المقدسة، مليئة بالمغامرات والطرائف والأحداث، خاصة وأنها تصادفت يومها، مع حدث كروي مثير بين الجزائر ومصر. رحلة يلخصها خليفة بن عمارة في آخر الكتاب، على النحو التالي: "حج 2009: الانطلاق من العين الصفراء يوم 10 نوفمبر، العودة يوم 07 ديسمبر. المدة : 28 يومًا. تم قطع نحو 14000 كلم، زائد قطع مسافة على البحر الأحمر ذهابا وإيابا. زيارة ستة بلدان هي: الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، الأردن، المملكة العربية السعودية. تم تحويل ستّ عملات". من المصادفات أن يوم ذهابه إلى الحج هو يوم: 10 نوفمبر، هو نفسه يوم وفاته.