من الروايات التي قدمت لنا أخيرا * رواية للكاتب "علاوة كوسة" والتي تحمل عنوان :" بلقيس.. بكائية آخر الليل..". وهي رواية قصيرة تقع في 125 ص من الحجم المتوسط من إصدار رابطة الفكر والإبداع لسنة 2012. رواية بلقيس من الروايات الحديثة التي تبحث عن صيغ وقوالب جديدة شكلا ومحتوى , يحاول كاتبها الشاب علاوة كوسة أن يتموقع بها كصوت حدثي يجمع بين التجديد الممكن والتأصيل الثابت؛ في حلة رومانسية المحتوى رمزية الدلالة , حلق فيها الكاتب في ظلال شاعرية جميلة , وقدمها لمن يحب ك : ( شيء يشبه الشعر.. يشبه الاعتراف ..يشبه الاعتذار...) وقد وظفت الرواية رموزا مختلفة منها ما هو من التراث العربي والإسلامي ومنها ما هو وافد من ثقافات غربية أثرت النص الإبداعي وخلقت فيه ديناميكية ثرية بدلالاتها .... ينبغي أن نشير بداية إلى أن الرواية المذكورة جاءت غنية بإيحاءاتها , ثرية برموزها , مشاغبة أحيانا ومتعبة أحيانا أخرى , مما يجعل القارئ مشدودا لها ؛ يعود إليها كل مرة ليتأكد من معلومة أو ليتفهم موقفا مقصودا . وهو ما جعلنا نتوقف عندها في هذه القراءة الخاصة ؛ إذ يمكن لهذه الرواية أن تستقيم لعدة قراءات مختلفة , لذا فإننا نعتبر هذه الوقفة كانطباع شخصي وجمع لعدة ملاحظات علقت بذهننا ونحن نتصفحها , فسعينا إلى تدوينها كما وردت ... عندما نعرض لقالب الرواية ولنمو أحداثها ؛ فأول ما يستوقفنا هو قلة أحداثها , وبساطة بنيتها , وإيقاعها البطيء ( المثقل بالذكريات والأحلام والحوار الداخلي..) , , إذ يمكن تلخيص أحداثها كالآتي: أستاذان شاعران( خليل وبلقيس) يتبادلان العواطف بشكل مختلف , يتم استدعاؤهما لملتقى ( الريشة والقلم ) تستضيفهما مدينة ساحلية ينزلان في فندقها ثم يلتقيان في (دار الثقافة) حيث يفتتح الملتقى , وفي المساء يتحول الجميع إلى المرسم (فضاء للرسم ) ويقدم كل شاعر قصيدته لرسام (مشارك في الملتقى ) ليجتهد في تحويلها إلى لوحة زيتية .! وفي اليوم الموالي(يوم الاختتام ) يتحصل خليل على الجائزة الأولى عن قصيدته ( بكائية آخر الليل ) التي تتحول إلى أفضل لوحة ويكون حينئذ غائبا , وتعود بلقيس ( الحالمة به ) متسائلة عن غيابه ( مفجعة به ) .... أول ما نلاحظ عن الأحداث والحبكة هو الرتابة والفتور مع قصر المدة الزمنية من عمر أحداث الرواية , كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن الكاتب بصدد تدوين مذكرات شخصية , أو يعتذر عن أحداث واقعية مرت به دون وعي منه بمقاصدها , ناهيك عن مواقف غامضة تصدر من البطل: كالغياب المفاجئ في أكثر من موقف ؛ مغادرة المرسم , مغادرة الفندق : (استأذنتني وغادرت المكان إلى حيث لا أدري ..ص50..) الرحيل والغياب المفاجئ للبطل في حفل الاختتام والنهاية المفتوحة للقصة والتي ختمها الكاتب بإحدى عشرة كوكبا ( أحداث ومواقف ), في آخرها ما يشبه الاعتذار عن سيل العواطف التي لم توجه إلى حيث الآمال المرسومة لها ., ويذكرنا ( درويش الكاتب ) بأن ما حدث هو :((.. ليس سوى غيبة "هدهد"..أو نبوءة "زرقاء"..))... ارتكازات الرواية : ما ذكرناه عن أحداث القصة وحبكتها قد يبدو للوهلة الأولى ضعفا فنيا أو تهاونا من الكاتب في سبك وشد أحداث الرواية , وهو بالفعل ما يؤثر عن ذهن القارئ – في البداية- وقد يوتره وهو ما سميناه بالمشاغبة ؛ تلك المتأتية من إثارة الدهشة . أما حقيقة ذلك فإن بساطة قالب القصة وقلة أحداثها لم يكن إلا المشجب الذي علق عليه الكاتب مجموعة من الرؤى والتصورات وكذا جملة من الأفكار والإشارات طرحها الكاتب , وقد جاءت مكثفة - في بعض الأحيان - عن طريق الرمز والإيحاءات خاصة منها الوافد من التراث أو الآداب العالمية . فثورة الكاتب ومناشدته للتجديد تظهر جلية في أكثر من موقف فهو يصرح : ( ..قوم عبيد الذاكرة...في عز ثورتنا عن الإرث والأصل والماضي ..محاصرون بخطوط حمراء رسمتها سلط شتى.. لكن يجب أن نتحول عنها..ص35 ). ويواصل الكاتب احتجاجه : ( تأسطر كل شيء في حياتنا ...أنت وأنا يجب أن نعيش فكرتنا ,بكل جنون, فلا مكان في هذا الكون للتعقل والثبات..ص59 ) تم يأتيه الجواب السليم . (..ولكن أن نعيش فكرتنا فمعناه أن نتعرى من أثواب العيد القديم ..لكن في تلك الأثواب عطر أمي , وفيه ذكرها و ذكراها.. أجل وذاكرتي بالفعل ...ص59 .) ..هذه الأفكار وغيرها تطل علينا في أثواب شتى تعكس ثقافة الكاتب وتأثره بكتاب عرب أو أجانب , فمن المفكرين الغربيين ؛ ما ورد ذكرهم في الرواية كالفرنسي أندريه جيد :(( بأنني أحب فيك ما يختلف عني .ص37 )) , وصاحب كتاب ( التاريخ والحقيقة ) المفكر بول ريكور..ص70 ..ثم صاحب رواية (( اسم الوردة )) الأديب الايطالي أمبيرتوايكو: ((..سائل الفلسفة والأدب والتاريخ عن معاني الورد..ص40 )) وكذلك "زوربا" بطل رواية نيكوس كازانتزاكي بفلسفته الخاصة في الحياة : ((.زوربا قال ذلك ..زوربا صادق دائما......ص 123 ))..ما يمكن استنتاجه من هذه التوظيفات والإشارات (لأعمال وكتاب ) أن في فحواها إحالات عن أفكار وفلسفات قصدها الكاتب ؛ فهو على وعي بكل تلميح أو إشارة وهو على قصد بكل إيماءة موظفة ؛؛ فتعريجه بنا نحو "زوربا" - مثلا – هو تلميح لما لهذه الشخصية الثرية من عوالم مدهشة وفلسفة ابتكرها البطل زوربا من قناعته الشخصية فهو ( الأمي - الحكيم )والذي يختار دروبه من قناعاته ويعيش حياته كما يسطرها ويحبها في حينها . أما توظيف صاحب رواية " اسم الوردة " فهو تعريج نحو طقوس وإيحاءات تعود بنا إلى القرون الوسطى وسيطرة الكنيسة , وصراع القساوسة والتحقيقات التي رافقت ذلك في اتجاه الثورة والخلاص من التحكم الديني " المسيحي" وصولا إلى النهضة الفكرية المعروفة . أما تأثير الثقافة الإسلامية والعربية فهي واضحة ولا تحتاج إلى تفسير ويمكن أن نذكر منها : (( وكنت خليلا هجر نصفه.. ترك "هاجره" بمكان غير ذي أنس.ص50 )). وكذلك قوله: ((..القمر, لأنه عاد مثل عرجون قديم..ص60)).ومن التراث العربي ؛ التذكير بالمقدمة الطللية في القصيدة العربية : ((...مرسما دارسا أتحجج به لأقف واستوقف وأبكي وأستبكي ...ص107 )). ومن المفكرين العرب نذكر ما ورد ذكرهم بقصد دائما : المفكر ابن عربي ( ص15) ومن الأدباء المحدثين: حنا مينا , وإيليا الحاوي ...ونذكر أيضا أن الكاتب لا يعمد إلى شرح أو تفسير أو توقف عند فكرة ما عادة ؛ بل يقدمها في شكل رمز أو إيحاء. وطقوس الكاتب ممزوجة دائما بشلال عواطف وهالة رومانسية يهدهدك بها وهو يقدم لك وجبته الإبداعية الدسمة بتدفقاته الشعرية وأسلوبه السلس الجميل.. لغة الكاتب : للكاتب أسلوبه المميز ولغته الشاعرية التي يرتقي بها عن الوصف والسرد العادي مستعملا الجمل الفعلية المترادفة والتي تخلق حركية خاصة وترادف صور تجعلك تلاحقها بدهشة المتلقي وشهية المتمتع , فلغة الرواية سلسة بعباراتها , ثرية بإيحاءاتها وشاعريتها , متدفقة بصورها المتلاحقة , توشح هالة من الصراع العاطفي ( الهادئ ) اللبق المبني على ألفاظ :,الشوق , الأسف , الحلم , التطلع.. وأحيانا ألفاظ : العتاب , الشك , الخيانة...وقد أجاد الكاتب في اختيار ما يناسب هذه المعاني من عبارات وتراكيب لم ينزل بهما عن الفصحى ..ومن الألفاظ الموحية بفكر الكاتب نذكر : تأسطر , تماهى , توارب , وألفاظ التحول المختلفة , كما نلاحظ أن سرد القصة ورد بلغة المخاطب , وعلى شكل رسائل موجهة إلى الآخر وكثير ما يبدأ الخطاب ب : أكتب إليك...إيه يا صديقي... ها صديقي ...آه صديقي ...أجل صديقي . ولا يخفى ما في هذا الخطاب من إظهار لجملة من المشاعر فيها الحنين والأسى وفيها الشوق والحسرة وهي المشاعر التي تعج بها الرواية وتأتي في الغالب على لسان البطلة ..كما ورد الحوار أيضا مخاطبا الآخر على أنه الأنا ,, مثل قول بلقيس : (( يا أناي الذي لم تكني ...ص 42 )) وهو المقطع من الحوار الذي تكرر أكثر من سبع مرات في الرواية نظرا لأهمية دلالته عند البطلة , ثم يأتي خطاب ثالث وصوت آخر غير صادر من " بلقيس أو خليل " يعرف صاحبه من السياق : ((...الآن تنامان حلما ..أما أنا لا يعرفني أحد لكن شرفي أن أكتب عنكما ليقرأ الآتون ..ص26 )) وكذلك قوله: ((..لقد كنتما روحين في جسد واحدة ...فلكما البياض ولي شرف المداد ...ص 32 ))..وما يمكن قوله عن الصيغ والتراكيب فقد جاءت في مجملها سليمة وفصيحة فيها الكثير من بصمة صاحبها , فمن الصيغ التقليدية التي أصر عليها الكاتب قوله:( وأن تكون هادئين بدهشة.. فذلك رأس الفطنة. وأن نصبح مندهشين بهدأة.. فذلك رأس الحكمة.ص109 ). وما يلاحظ كذلك عن الحوار إضافة إلى رشاقة عباراته وفصاحتها , ونزوله أحيانا إلى الواقعية أن فيه كذلك من شطحات "الكاتب" الكثير.. لاحظ مثلا كيف ينجح في توظيف لفظ تعجبي محلي إلى لفظ فصيح : ((.."أخاه" يا حبيبي كيف صرنا...)) كما نلاحظ خفة التحية في هذا الحوار الذي جمع بين الفصحى والعامية وإن بدا وكأنه وافد من لهجة أخرى : ((.. كيفك بلقيس ؟ ... كيفك أنت يا غائب ؟ ...ص111 )). وكما هو معلوم فإن الكاتب "علاوة كوسة"هو شاعر أيضا , وقد برز هذا في الرواية عندما وظف الشعر في أكثر من موضع راجع : (( ص 64 & ص 116 )) كما لم يبخل علينا بإحدى الأغاني(( في ص 68 ))التي ميز بها الرواية... الخاتمة : تبدو رواية "بلقيس.. بكائية آخر الليل " من الأصوات الروائية الحديثة التي تتجاوز في قالبها الفني كلاسيكيات الرواية المعروفة , وهي التي ترى أن الأحداث التقليدية مباحة لأي نثر سردي آخر قد يوظفها, وأن الرواية الحديثة يمكن أن تكون أسلوب شعري جميل , وتدفقات عاطفية مؤثرة ؛ تحمل إيماءات وإيحاءات رمزية لجملة من الأفكار التي تنساب في قالب منطقي , يحمله خيط رفيع يحبك القصة أولها بآخرها دون أسطره مسبقة أو قالب فني مقدس يمليه الأولون أو التابعون من الأكاديميين أو النقاد .... تلكم هي ملخص الحداثة في الرواية الجديدة ...ولا يخفى عن القارئ ما في هذه الرواية من جماليات مؤثرة تنفذ إلى نفس القارئ فتحرك فيه الدهشة والإعجاب كما تشده إليها بقوة ليبحر فيها منساقا وراء أخيلتها الحالمة وطقوسها الشعرية المنسابة نثرا جميلا , فنحن إذن أمام قصيدة شعرية لم تنتظم ( خليليا ) ولا ( نازكيا ) إلى أن يقول القارئ عبر الزمن كلمته الأخيرة فيها ..