حينما تشاهد جموع المصلين و هي تحج إلى بيوت الله بعشرات الآلاف ليلة كل رمضان تشعر بزهو و فرحة و تتجسد أمام عينيك مقاصد هذا الشهر الكريم في صيام نهاره و قيام ليله و تنتابك طمأنينة أن هذا الشعب الجزائري العظيم لا زال بخير ما دام متمسكا بأحكام دينه و بأصالته التي بها يحدد منافع و مضار حاضره و مستقبله . لكن الذي يصيبك بالغم و الهم و الحزن أن هذه الجموع الكريمة التي لبت نداء صلاة التراويح (التي لا تصل إلى حكم الواجب بخلاف الصلوات الخمس) ، فيها نسبة كبيرة سدت آذانها عن سماع نداءات أخرى يقع المخالف لها في دائرة الحرام و الموبقات ، فمن بين هؤلاء الاخوة الأفاضل الذين عمروا المساجد تجد طبيبا يحتل أحد الصفوف الأولى و يتباكى لسماع آيات القرآن تاركا المريض يجهش بالبكاء من شدة الآلام مرميا على سرير المهانة و الانتظار بالمستشفى ، و على يمين مرتدي المئزر الأبيض يصادفك صاحب جبة سوداء تفيض عيناه من الدمع بفعل الخشوع ناسيا أو متناسيا موكله القابع في ظلمة السجون لأنه لم يدافع عنه بالشكل الصحيح و لم يكلف نفسه عناء البحث عن مخارج قانونية ينقذه بها من فزع أصوات القضبان ، من بين الذين يرتفع عندهم كذلك منسوب الإيمان في شهر رمضان رئيس مصلحة في مديرية الضرائب تراه يتمايل في الصلاة و رجلاه تئن غير قادرة عل حمل ما تكدس في بطنه المتكبر من لحوم و شحوم و أسماك ، رشاوى في قالب هدايا ففي رمضان كل شيء يصاب بالانفصام حتى مصطلحات الكلام فنسبة الضريبة المقلصة صدقة جارية و الشيك الموقع بالملايين محبة خالصة ، على مقربة من الإمام كاتب صحفي باع نفسه و أراق حبر قلمه على عتبات المسؤولين ، ألف معلقات الغزل و المدح و الاطراء في فطنة المدير و دهاء الوالي و ذكاء الوزير كل هذا من أجل الوصول إلى مقام الرضى و القبول عبر جثث كلمات التزلف و التملق و التذلل أما المواطن المسكين فله ركن محفوظ في الجريدة يسمى التعزية لمن استطاع أن يشتري مساحته الإشهارية ، رجل ألقى بحمولة جسده على سارية المسجد يتلو القرآن بصوت شجي و بتدبر فيه تفلسف هو أستاذ يدرس بالطور المتوسط ينفس قهر الدهر على ظهور تلامذته نفرهم من التعلم بتذمره كرههم في جيلهم لفرط تغنيه بجيله ، يقسم ساعات التعليم بين مطالعته هو للجرائد و مطالعتهم هم للكتب ، وفي ركن مقابل يجلس موظف بالحالة المدنية يستمع بانتباه كأن على رأسه الطير للدرس الذي يلقيه الخطيب بعد الصلاة و مضمونه أن الدين معاملة و أن أقرب الناس إلى الله يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا و أن الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه ، هز عامل "لاميري" رأسه مرات إقرارا بقيم الاسلام الإنسانية ما دامت لا تعنيه فهو في النهار إنسان آخر يتفنن في احتقار الناس بالكلمات المسمومة و يزدريهم بالنظرات المتعجرفة من وراء شباك مكتبه و كأن شهادة الميلاد التي سيسلمها لهم ستمنحهم حياة جديدة . هذه وجوه ممثلين قلائل في مسرحية الواقع الكبيرة الذين أضحوا يقتنون فقط ما يحلو لهم من أطباق معروضة على مائدة الحياة بما في ذلك الدين الذي أفرغوه من الجوهر تحت سطوة المظهر فحدث الانفصام بين مقاصد الشعائر و سلوكيات المعاش .