لقد قدمت الثورة التكنولوجية الحديثة خدمات كبيرة للإنسان المعاصر،فمن تسهيل الاتصالات الممكنة إلى تدفق المعلومات المختلفة،مقربة بين الأقطار وجامعة بين الشعوب،كما ضبطت أخبار المجتمعات ورصدت صورها وأحوالها في أجهزة تقنية متطورة يكفي ملامسة أزرارها لتتدفق على مستعملها كل الأخبار التي يتوقعها والتي لا يمكن أن يتخيلها. إلا أن هذه الخدمة العلمية الجليلة لم تشذ على القاعدة التي تقول:( لكل شيء إذا ما تم نقصان!) ونقصان هذه الخدمة أو سلبيتها هو إمكانية السطو والقرصنة على إبداعات الآخرين،فعملية السطو على الانتاجات الفنية وقرصنتها ثم إعادة توزيعها بالمقابل أو بالمجان هو ما أصبح يؤرق المبدعين والمستثمرين في المجال الفني . كانت بدايات القرصنة بطريقة السطو على الأغاني الحديثة،وإعادة ترويجها ولعب جهاز MP3 دوره في هذه العملية،ثم تطورت القرصنة لتشمل مجال فن السينما،وأصبح الفيلم الجديد،بعد السطو والقرصنة،يوزع في اسطوانات ويباع في الأكشاك،قبل أن يعرض في القاعات المخصصة له،وعلينا أن نتصور ما الذي سيحصل لمنتجي الأفلام الذين يقعون في مثل هذا الشراك. ثم جاءت مرحلة قرصنة الكتاب بمختلف أنواعه بما فيه الكتاب الأدبي،وهو الأمر الذي أزعج المبدع وشيب رأس أصحاب دور النشر،وضرب الناشرون في كل الاتجاهات بحثا على حل لهذه المعضلة،وانظم أكثرهم في تجمعات أو منظمات لتوحيد الجهود في سبيل ضمان الحقوق ومواجهة آفة القرصنة. ومن المساعي المختلفة في هذا الاتجاه ما ذهب إليه أحد اتحادات الناشرين عندما ناشد السيد: (قوقل) على أن يحذف من "محرك بحثه" أسماء المواقع التي تتعدى على الملكية الفكرية،كما نسجل مسعى مغاير لاتحاد الناشرين المصريين ومن باب ديني،حيث استصدر هذا الإتحاد فتوى من دار الإفتاء المصرية تقضي بتحريم نشر الكتب على المواقع الالكترونية دون موافقة صاحب الكتاب أو دار نشره. إذا اقتصرنا حديثنا في القرصنة الالكترونية على الكتاب،فإن الأمر فيه شيء من الإحراج والحيرة،هذا إذا سلمنا بأن الكتاب هو وعاء المعرفة وزاد الفكر ووسيلة من وسائل التعليم التي هي حق للجميع،أما إذا نظرنا للموضوع على أنه إنتاج لجهد المبدع ومادة استثمار لدى الناشر، قدم فيها مقابل مادي لتصبح ملكية مادية لديه،ومن حقه تسويقها حسب القوانين المعمول بها، فسنجد أن الأمر هنا مختلف تماما. وبين الأمرين يحدث التجاذب،فهناك من يدعي جشع الناشرين الذين يبالغون في رفع أسعار الكتب مما يجعل الكتاب ليس في متناول الجميع خاصة محدودي الدخل والطلبة الدارسين. ومن بين حجج هؤلاء أيضا أن بعض المناطق خاصة الداخلية والنائية، لا تصلها الكتب أصلا،خاصة الكتب المنشورة في دول أخرى. وهنا ينبغي أن نقف عند هذه الحجج،فهي على ما فيها من حجة إلا أنها تصب في وعاء تبرير القرصنة،وهو الأمر الذي يدعونا إلى التعقل بل وإلى الرفض إذ علينا أن نساير الحكمة وأن نحكم الأخلاق العامة،على اعتبار أن القرصنة هي وضع اليد على ملك الغير والتصرف في هذا الملكية بدون وجه حق. فالمبدأ الأخلاقي يؤكد بأن لا مبرر لعملية القرصنة،فهي في كل الحالات،نوع من السرقة والسطو على ملكية الآخرين. والحل الذي يمكن أن يطرح في مثل هذا الإشكال هو في الإجابة على السؤال التالي:ما هو البديل الممكن لتوفير الكتاب للقارئ الشغوف بالقراءة،في زمن نشكو فيه من نقص أو نفاذ للمقروئية!؟ كما علينا أن نركز على أن الإشكال واقع في الحلقة ما بين الكاتب والقارئ،إذا سلمنا بأن هَمَّ الكاتب هو الوصول إلى القارئ وهو ما يدعونا إلى أن نحمل جزء من المسؤولية لأكثرية الناشرين،والأمر فعلا يحتاج إلى دراسة عميقة وموضوعية،حتى نضمن وصول الكتاب بأيسر ما يمكن للقارئ،كما تُضمن للناشر حقوقه،على اعتبار أن دور النشر،لحد الآن،لازال الوسيلة المنتجة للكتاب والحلقة الرابطة بين الكاتب والقارئ،ومن المجازفة الاستهتار بدورها أو الاستغناء عنها. كما نؤكد في الأخير على الدور الأساسي للوصاية الثقافية في البلاد،على أساس ما صرف من أموال في سبيل نشر وتعميم المكتبات العامة،باعتبار أن المكتبات المدرسية والعمومية تبقى الضمان الأكبر لوصول الكتاب على الأقل للطالب والباحث،على أن تسعى هذه المكتبات إلى تحيينها عن طريق التزويد الدائم لها بكل ما يستجد من كتب،كما ينبغي أن تعطى مسؤولية الإشراف عليها،لمن يعي أهمية الكتاب ولمن يجيد احترام قارئه.