الاستثمار في المؤسّسات المصغّرة يعدّ من أهم الخيارات التي تبنّتها الحكومة الجزائرية من أجل خلق الثروة خارج المحروقات و امتصاص البطالة فهذا القطاع أثبت فعاليته في تحريك اقتصاد أي بلد و خلق قيمة مضافة لكن شريطة أن يوفّر للمقاولين الصّغار مناخ أعمال مناسب يسمح بتطوّر نشاطهم و توسيعه و ضمان ديمومته في السّوق الوطنية و من خلال الاستطلاع الميداني الذي أجرته جريدة الجمهورية حول واقع المؤسّسات المصغّرة ببلادنا و دور أجهزة التشغيل المختلفة في دعمها و مرافقتها تبيّن بأن الظروف التي يعمل فيها أصحاب المشاريع لا تتماشى و التدابير التي وضعتها الدّولة لصالحهم حيث اشتكى الكثير منهم من صعوبة انشاء مؤسّسة مصغّرة بسبب ثقل الاجراءات الإدارية رغم التسهيلات التي وعدت بها الإدارات المعنية و في مقدّمتها وكالات التشغيل و البنوك المموّلة للمشاريع و صعوبة الحصول على العقار الصّناعي أو التجاري . و غيرهم اشتكوا من غياب المرافقة التقنية و فرص التكوين و التأهيل لأن الكثير من حاملي المشاريع لا يملكون خبرة و لا مؤهّلات للخوض في مجال المقاولاتية و تسيير مؤسّسة و عمال و إدارة أعمال. و غيرهم يتشكون من صعوبات التمويل و تسديد الديون بسبب عدم قدرتهم على الاندماج في الأسواق و افتكاك حصص منها و حرمانهم من الصّفقات العمومية و المنافسة غير الشرعية العيب في سوء تطبيق إجراءات دعم المؤسسات و إذا اطّلعنا على القوانين و الاجراءات المتخذة لمرافقة المؤسّسات المصغّرة سنفهم بأن العيب يكمن في التطبيق فالأطر القانونية التي تضمن ديمومة هذه المؤسّسات موجودة لكن بتجاهلها صعب على المقاولين الصّغار الاستمرار و المثابرة و رفع التحديات لفترة طويلة فمهما كانت إرادة صاحب المؤسّسة في البقاء قويّة يوجد عوامل أخرى تمنعه من ذلك و أهمّها العامل المادّي فبغياب المال لا يمكن تسديد أجور المستخدمين و لا القرض و يصعب تسيير مصالح المؤسّسة و يكون التفكير في الاستثمار لتوسيعها ضربا من المستحيل و لمثل هذه الظروف و الأسباب نلاحظ بأن أغلب المؤسّسات المصغّرة تنشط في مجال الخدمات باختلاف أنواعها لأنها لا تحتاج إلى استثمار أموال كبيرة و الربح فيها مضمون نسبيا و عامل المخاطرة يكون ضئيل مقارنة بمجالات النشاط الأخرى لأن هذا السوق يوفّر فرصا كبيرة بفضل ارتفاع حجم استهلاك المواطن الجزائري للخدمات و من خلال وكالات التشغيل المختلفة تم خلق مئات الآلاف من المؤسّسات المصغّرة و وكالة "أنساج" لوحدها مولّت أزيد من 350 ألف مشروع منذ إنشائها فسمحت بفتح أزيد من 1 مليون منصب شغل حسب المدير العام للوكالة مراد زمالي غيرأن توزيع هذه المؤسّسات حسب النشاط غير متوازن فقطاع الخدمات بكل أشكالها أخد حصّة الأسد بحوالي 80 بالمائة و النسبة المتبقية موزّعة بين الانتاج الصناعي و الفلاحي و السياحة و هذه الأرقام لا تعني بأن قطاع الخدمات كان أرحم على المقاولين الصّغار من القطاعات الأخرى فمن أهم المشاكل المطروحة حاليا هي تشبّع العديد من مجالات النشاط فأصبحت لا تدر الأرباح على أصحابها فوقعوا في ضائقة مالية ،فمنهم من أفلس و تخلّى عن مؤسّسته و منهم من يطالب بمسح ديون البنوك و حسب مدير "أنساج" مراد زمالي فإن 25 بالمائة من أصحاب المؤسّسات المصغّرة عجزوا عن تسديد ديونهم و من خلال حديثنا مع بعض المقاولين الصّغار أدركنا بأن دخول قطاع الانتاج صعب جدّا لذلك يختارون السّهولة و الربح المضمون بقطاع الخدمات و هناك الكثير من الأمثلة عن مؤسّسات إنتاجية تنشط بتراب ولاية وهران لكنها أصحابها وجدوا صعوبة كبيرة في استرجاع المال المستثمر و تحقيق الأرباح و من بين الأمثلة مؤسّسة صناعة الزّجاج النظري الموجودة بمنطقة حاسي عامر و إذا كان الهدف الرئيسي في النهوض بالمؤسّسات الصغيرة و المتوسطة هو خلق الثروة خارج المحروقات فليست الخدمات هي التي ستمنح للاقتصاد الوطني القيمة المضافة بل الصّناعة و انتاج السّلع لذلك كان توجّه جل المقاولين الصّغار للخدمات لما تمنحه من فرص و سهولة فحدث تشبّع كبير جدّا بعدة قطاعات كالنقل و النظافة و صناعة الخبز و الحلويات و محطّات غسل السيارات و الحلاقة و غيرها .في حين يلاحظ عزوف كبير جدّا عن الاستثمار بقطاع الانتاج و هو ما يحتاجه اقتصادنا اليوم و أكثر من أي وقت مضى و من خلال تصريحات حاملي المشاريع و الإدارات المعنية بانشاء المؤسّسات و مرافقتها يتضح بأن الانتاج أصبح قطاعا يخيف المقاولين الشباب فهو يحتاج إلى أموال كبيرة و عقار صناعي و يد عاملة مؤهّلة و سوق مفتوحة لترويج السّلع في ظل منافسة نزيهة و جهد و صبر و طول نفس لخلق المؤسّسة و خبرة و كفاءة في الإدارة و التسيير . الخوف من المخاطرة و غلبة السّلع المستوردة لكن كل هذه الأمور تصعب على المقاولين الصّغار ممّن يخافون المخاطرة في مشروع يجتمع فيه الرّبح و الخسارة كما أن الحصول على عقّار صناعي مناسب لانشاء مؤسّسة انتاجية ليس بالأمر الهيّن في غياب مناطق للنشاطات تضم كل المرافق الضرورية و الشبكات المختلفة من قنوات و طرقات و خدمات و أمن و غيرها .كما يطرح أيضا مشكل اليد العاملة المؤهّلة التي أصبحت عملة نادرة في هذا الزمن ،فمعظم المقاولين يشكون تراجع عدد الحرفيين و أصحاب الكفاءات و المؤهّلات في تخصّصات كثيرة . و الأسواق أيضا لا توفّر المناخ المناسب بسبب الأنشطة الموازية من جهة و غلبة المنتوج المستورد الذي ينافس المنتوج المحلي من حيث الجودة و السّعر.و حتّى إجراءات انشاء المؤسّسة طويلة و معقّدة و قد تدوم سنتين أو ثلاث أو أكثر أي طيلة فترة تجسيد المشروع بالبحث عن العقار و التمويل و العمال . و بولاية وهران تسعى السّلطات المحلية و المركزية إلى خلق قطب صناعي متخصّص في انتاج السيارات و الميكانيك على مستوى المنطقة الصّناعية بوادي تليلات و هذا بعد فتح مصنع تركيب السيارات رونو الجزائر و فيما بعد مصنع بيجو لذلك تقرّر خلق نسيج صناعي بالاعتماد على المناولة و المؤسّسات المصغّرة في هذا الاختصاص لكن لا تزال الكثير من العراقيل لم ترفع لتحقيق هذا الهدف و من أهمها التمويل ،فصناعة الأدوات و الأجهزة المستعملة في السيارات يحتاج إلى استثمارات كبيرة و وكالات دعم تشغيل الشباب و في مقدّمتها "أنساج" لا تمنح لحاملي المشاريع أكثر من 1 مليار سنتيم كقرض استثماري لذلك فإن تجسيد مثل هذه المشاريع ليس على مقاس المقاولين الصّغار و إنّما أرباب المال من لهم القدرة على المخاطرة في هذا المجال فمهما كان فإن التصنيع فيه مخاطرة كبيرة سواء ببلادنا أو بأي بلد أخر متطوّر و هذه المخاطرة تكمن في صعوبة تسويق المنتوج في ظل اكتساح السّلع المستوردة للأسواق الوطنية .و لتشجيع سلعة ما يجب تقليص حجم الواردات حتى يستطيع المنتج الجزائري بيع سلعته بسهولة فلا يواجه أي عراقيل أو منافسة غير متكافئة. و ان استطاع أن يتخطّى كل هذه العراقيل و يحصل على الدّعم الكامل لانشاء مؤسّسة متخصّصة في صناعة أدوات السيارات و تجهيزاتها فسيواجه مشكل اليد العاملة لا محالة فهذا التخصّص مفقود بسوق الشّغل و التكوين فيه يكاد يكون منعدما لذلك أصبحت معاهد و مراكز التكوين المهني و التمهين مطالبة اليوم بإعداد فئة من الحرفيين لمواكبة متطلبات السّوق الجديدة و إدراج هذا التخصّص بمختلف شعبه في مدوّنة الحرف و المهن و لهذه الأسباب و غيرها لا يزال حاملو المشاريع متخوّفين من الاستثمار في قطاع الانتاج فيكتفون بما هو في متناول أيديهم و لا يكلّفهم أموال كبيرة و تكون الأرباح مضمونة و نسبة الخسارة المحتملة ضئيلة