الجزائر قلة هم أولئك الشعراء الذين نشعر نحوهم بالدين المعنوي الكبير، من دون أن نعرفهم معرفة قريبة فإذا كتاباتهم كافية لخلق علاقة ما، أكثر قوة من أي علاقة أخرى ، علاقة رمزية، في معنى أن ليس لها منفعة مادية مباشرة أو غير مباشرة، علاقة تربطنا بهم في ذلك «المتاع غير المادي» كما يسمي " امبرتو ايكو " الأدب . كان محمود درويش من القلائل الذين صاحبتنا نصوصهم منذ الصبا حتى اليوم، ولا تخلو بيوت عائلاتنا من أعمالهم الشعرية القديمة والجديدة على السواء يتلقفها القراء على اختلاف مستوياتهم ودرجات فهمهم وتذوقهم للشعر، ولئن كان درويش يملك طريقة خاصة في إلقاء شعره، ما كان يمنحه حضوراً جماهيرياً كبيراً ويخلق مع مستمعيه علاقة سحرية بالغة الانجذاب والاستمتاع، فلا أظن أن شاعراً عربياً آخر كان يضاهيه في جودة الإلقاء وجمالياته، على رغم حداثة شعره، ورؤيته غير الكلاسيكية لوظيفة الشعر، لكن درويش بقي إلى حد بعيد ذلك الشاعر النزق، غير المنطوي أو الخاضع لا لتيار المجددين ولا لتيار القدماء. كان كما يعتز بالمتنبي ويعتبره أهم شاعر عربي في مختلف العصور، يتحدث بالسماحة نفسها والصدق نفسه عن شعرية بدر شاكر السياب ، أو الماغوط، أو أدونيس، كما لو أنه كان يرفض أن يضع الشعر في علبة مقفلة. هو هذا، وليس غير ذلك، كما لو أن الشعر بالنسبة اليه شيء خاص ومختلف ومفتوح وحر ومقيد وإنساني وشفاف وممتع وعارف، يجمع بين ما يظهر لنا متنافراً، ويركب بين ما يخيل إلينا أنه متناقض، وقادر على خلق السحر والدهشة باستمرار متواصل. أظن أنه الحظ السعيد هو الذي جعلني اقرأ درويش في سن مبكرة، حظ وجود أعماله الشعرية الكاملة في البيت داخل مجلد بغلاف أحمر عليه صورة بالأسود والأبيض للشاعر وقد صدرت عن دار العودة، حينذاك اكتشفت أشعاره الأولى التي كانت انتشرت ، لاسيما مع موسيقى مارسيل خليفة وصوته. ، كانت قراءاتي للشعر في تلك البدايات الأولى قراءات متذوقة ومستمتعة، وغير مهتمة إن كان في هذا النص شيء جديد أو غير جديد، ومن دون خلفية ثقافية كبيرة ، ولعل هذا ما جعلني أعشق شعره من أول قراءة، أو يبقى تأثيره فيّ متواصلاً على مدار السنوات الآتية. حينما أخذ الاهتمام عندي بالأدب حيزاً أكبر مما تصورت وظننت، حافظ درويش في الكتابة الشعرية على التجدّد باستمرار وكان من أوائل الذين رفضوا الزج بشعرهم في القضية وحدها، وما سمي بأدب المقاومة، حيث أدرك أنه الفخ الكبير ألذي سينصب له كشاعر أولاً وقبل كل شيء، ولأنه شاعر تمكن بسرعة من تجاوز نصوصه النضالية والتبشيرية الأولى نحو شعر مفعم بالحرية والحيوية، مثلما كان الأمر في قصائد مجموعته الجميلة «أعراس» وشخصيته المثيرة «أحمد المنفي بين فراشتين»، أو بالارتفاع بسقف القضية إلى ما هو إنساني عميق وجوهري في كل أنحاء المعمورة كما في «ورد اقل» ، أو تلك القصائد التي لا تنسى أبداً «خطاب الهندي ما قبل الأخير» و «شتاء ريتا الطويل». هنا كان التحول في الشعر ذاته، في القدرة على الحفاظ على إيقاعية القصيدة وتحديثها بالصور والخيالات المجازية البليغة، قدرة تمكن من خلالها درويش على أن يكون الوحيد الذي يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. فلم يكن محسوباً على الشعر الجماهيري اللذيذ والممتع حتماً، مثلما كان الشأن مع نزار قباني، ولا على الشعر النخبوي الذي يفتن ذوي الألباب والنخب الحداثية فقط، مثلما كان الشأن مع أدونيس، كان يجمع بينهما في كليته العميقة والحرة، في ذلك النص الذي يؤثر في القارئ البسيط كما في المتبحر في الشعر والفاهم لأسراره وألاعيبه. كانت فطنته الشعرية من الصفاء بحيث لم تكن تجعله يلعب لعبة من يجعل من الشعر مجالاً تحتكره النخبة فقط. ومع ذلك لم ينزل بالشعر الى مستوى البسطاء من العامة الذين لا يغريهم إلا الالتزام بالقضايا الكبيرة أو الحب المراهق الجميل. حافظ على الخيط الذي يجعله شاعر الحرية بالمعنى العميق والواسع للحرية، في الجزائر في قاعة ابن خلدون، وهي قاعة كبيرة وتخصص للحفلات الفنية عادة، وقد غصّت بجمهور غفير للغاية، يتمناه أي شاعر عربي حتما عندما يقف على منبر الشعر، وانتظر الجمهور الغفير أن يقرأ الشاعر قصائد من أعماله الأولى لكن درويش ومن دون أن يعكر صفو الأمسية تلك رفض أن يعود إلى الوراء وقال أنه سيقرأ شعراً في الحب لأن الحب قضية أيضاً، ولأن الشاعر عاشق من طراز رفيع ومستوى آخر، لم يحدث قط أن التقيت الشاعر الكبير، لكن لم آسف على عدم لقائه، فهذا الشاعر سكن بيت عائلتي من زمان بعيد، ويسكن الآن بيتي منذ أمد طويل، حياً لا يموت، شاعراً في أتم معاني الكلمة، اقرأه باستمرار شاعراً وناثراً أيضاً ، ولن أنسى متعة صفحات «يوميات الحزن العادي» أو «ذاكرة للنسيان» أو «في حضرة الغياب» أو «اثر الفراشة»، فهي ليست محفوظة في رفوف المكتبة فقط ولكن بين رموش العينين وخرائط الوجدان، محفورة في الداخل كزهر اللوز أو أكثر ، درويش الإنسان العزيز وداعاً، درويش الشاعر الكبير دمت حياً بيننا وإلى الأبد.