لقد مكّنَ التفكيكُ بوصفه طريقةً في التلقي، وعبر تجريباته الجريئة المتداعية والتلقائية على النص، من الوقوف الند للند مع مقامه الإبداعي العالي، المحتكرِ الوحيدِ لخيراتِ الكتابة والفهمِ عبر التاريخ الفكريّ والإبداعيّ الإنسانيّ، حيث أتاح بذلك لقاصديه ومقترحيه سلطة يمكن نعتها في نظرنا بغير المُقيدة إلى حدّ ما، والتي مكنتهم من الرد على ادعاءات الدلالات المتغطرسة، سلطة هي في الحقيقة تمثّل قُدرتهم الفطرية القرائية المسلوبة من قِبل مؤسسات الأنظمة الدلالية القمعية، سلطة اختراقية قدمت لهم مفاتيح مهمة، على الأقل على الصعيد التجريبي المحفّز للوعي القرائي. لقد حاول التفكيك ومن دون هوادة إذن، اقتحام آفاق نصية كانت ولأمد غير بعيد أبعادا مُحرّمة و مُسيَّجة بكل ما هو متعالٍ ومانعٍ عن المرور إلى محاصيل النص الأنضج، إن مهماز التفكيك كان و ما يزال، دافعا قويا و ممكنا إلى حد كبير، لحركة الوعي "بالنصيّ"، وبكل ما يرتبط بالوعي المتصل بجوهر الإبداع، ولأجل ذلك حاول التفكيك ومنذ ظهوره دحض تلك الإدعاءات المبالغ فيها،والتي عملت على تقديس النص لأجل تبجيل حارسيه الوهميين، وحاصدي منافعه، لذلك فقد عمل التفكيك على تقديم تعريفٍ أكثر تبسيطا و واقعية للنص ولمفهوم القداسة النصية كذلك، فالنص إنما هو مقدس بشيوعه، وبتموضعه السهل والممكن قبالة كل قارئ على اختلاف إمكانياته القرائية، كما أن النص لن يكون مهما ومفيدا، إلا بتخليه عن الأسيجة الدوغمائية التي يحيط بها كينونته، لأجل أن يُرعِبَ بها كل مقترب منه إذ ذاك ، وهذا ما فتح المجال واسعا أمام بروز حقائق كثيرة ومهمة جاءت كمحصلات لحقِّ القراءة، فما الذي يمنعنا والحال هذه مثلاً من أن نفترض بأن الدلالةَ النصية هي وثيقة الارتباط بتلك الانتشارات القرائية التلقائية للمتلقي ؟ ، وما الذي يجبرنا على ألا نفترض أن هذه الانتشارات الدلالية الموجودة عند القارئ، إنما هي منبتة الصلة عن كل دلالة أولية محضة يمكن أن يقدمها النص؟ .. وهكذا وبفعل هذا الدعم التفكيكيّ للقارئ الأعزل، سقطت قلاع الكثير من البروتوكولات القرائية والإبداعية المبالغ فيها، و دُكَّت حصون كانت تنعت بالمنيعة،عملت على رفع عمادها غطرسات العقل النقدي السلطوي المحض لا غير، والذي أحيط عبر أزمنة استبدادية نقدية طويلة، بحراسة السلطات النصية ذات الهيمنة المستمدة من الوِصايات و الرقابات والمُسلّمات الواهية الواهنة، وهكذا أيضا دخل التفكيك إلى كل بيت فني لا ليهدم أو يفكك بالمفهوم الآلي للكلمة، وإنما ليخلخل و يفضح كل بنية متهلهلة تزعم التماسك، و ليقوض عناصر الوعي الهش فينا، تلك التي تدعي صلابتها ومركزيتها. لقد ظهر التفكيك واشتهر في خضم حركة ما بعد حداثية واعية بذلك الإلحاح الموضوعي الذي أفرزته الحفريات التي اشتغلت على النص بوصفه وجودا آخر، إلحاح جاء لينادي بأفول عصر الإجرائية و بصعوبة حصر العملية الدلالية في آليات مقولبة وأخرى نموذجية، تقدم تعريفات وتقييمات تدّعي النهائية و القداسة و ديمومة الصلاحية. لقد جاء التفكيك إذن،لا كردّ فعل إزاء مناهج نقدية بعينها كما يشاع، وإنما كفعل غير محصور ولا منعزل عن الواقع الأدبي والفلسفي، ذلك أن أهم القضايا التي طرحها التفكيك، هي لصيقة بهوية الإنسان الأولى، وليست بأي حال من الأحوال ذات أصول مستجدة أو طارئة أو زائلة، فالتفكيك هو في حالاته الأعم: الإنسان/ المفكر/ والمفكر فيه. فالاختلاف المرجأ مثلاً، إنما هو قانون راسخ في الوجود، يحكم الظاهرة الوجودية كلها، وقد قدم التفكيك مفهومه المبتكر لهذا الاختلاف المرجأ، إذ جعله وليد جملة من التداخلات الأخرى، فلا معزل لواحد من الدعائم التفكيكية عن غيره، لا معنى للاختلاف من دون فهم الأثر، ولا جدوى من تقصي الانتشار من دون تعيين المعنى التقريبي و المفترض للحضور و الغياب، و مركزية اللوغوس....و غير هذا.