بعد التحولات الثقافية و الأدبية و الاجتماعية التي عرفتها الجزائر منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي ، اشتغل بعض الروائيين الجزائريين على محاولة قراءة الراهن و النقد الواعي للتاريخ من أجل الاستنطاق و الإحياء و إعادة التدوين بإنتاج خطابات و أنماط سردية مختلفة ،جديدة و متميزة تتجاوز في مجملها المحاور و الطرائق المألوفة، كما تتجاوز أيضا ،حدود السؤال بكل جرأة و ذلك بالنبش و الاستبطان و الحفر عميقا في الوقائع و الأحداث بحثا عن الحقيقة في الإجابات الممكنة و المحتملة . من خلال هذه القراءة البسيطة لرواية "مذكرات من وطن آخر" للكاتب أحمد طيباوي الصادرة عن منشورات ضفاف و منشورات الاختلاف سنة2015،إننا نتوخى الوقوف عند بعض العتبات الدلالات والجماليات السردية والفنية التي وظفها الكاتب في نقده للواقع و للتاريخ و في محاورته للحاضر بأسئلة جوهرية، وذلك باسترجاع الذكريات و إضاءة بعض القضايا المهمشة في التاريخ المعدم وكذا البحث في تداعيات الماضي عن معالم الهوية و الوطن في الغربة و الاغتراب و مساءلة الذات و خباياها،فهل استطاع الكاتب أن يحقق الملاءمة بين التاريخ و المتخيل من الأحداث و آفاق التحول؟ و هل استطاع أن يحقق معادلة الحياد في التعبير بعمق عن مواقفه و آرائه؟ و هل تمكن من اختيار الطريقة المناسبة التي تدفع بالقارئ إلى التفاعل مع الأبعاد الفنية و الدلالية للنص؟. يحاول الكاتب أن يمارس حضوره الوجودي من خلال فيض من الذكريات في رحلة البحث عن الذات وجغرافية الانتماء إلى وطن يراه فوق كل الأوطان ويتخطى انكسارات التاريخ الذي كان يشكل ظل ، فالأكيد أن التاريخ المزيف لا يصنع الوجود،لذلك فهو يحاول و يحاول أن يحطم جدار الهمس والخوف ويبوح بمواقفه بنبرة حزينة يستحضر من خلالها شخصيات تاريخية " لا أدري لماذا كانت نهايات أغلب أبطال هذا الوطن فجائعية أو غير مفهومة.. غير متوقعة.. كريم بلقاسم .. عبان رمضان .. مصالي الحاج.. هواري بومدين..العقيد عميروش و سي الحواس..العقيد شعباني.. و الآخرون ص122"، و لربط الوعي بجذوره اشتغل الكاتب في عدة مقاطع على نقد الراهن و ما آلت إليه سياسة الفساد و الإفساد و الإنكار و التنكر التي زيفت الحقائق و الوقائع و الأحداث و طمست المعالم و حاربت الأفكار و ضيقت على الحريات و أعدمت الكثير من الرموز لتشويه الذاكرة و لتحقيق أعراضها الدنيئة و في تأرجح الكاتب بين الإحباط و التفاؤل، رسا به قارب الأمل في هاوية اليأس و التشاؤم و التي يراها الكاتب أفضل بكثير من مرافئ الوهم و التضليل. الرواية بلغتها الشعرية التي تعزف على أوتار البوح في متعة السرد ،لغة تعري الحقيقة بانزياحات متواطئة تعبر عن جوهر الإنسان و انشغالاته، هي لغة تفرض نفسها حتما على القارئ و تشركه في ملء الفراغات و في البحث عن أسباب الانكسار و السقوط ليتورط أيضا في البحث عن عجينة التفاؤل وطريق الخلاص، فمن يحل لغز الانقلاب و يفك شفرة التحول الكبير؟ ربما القارئ المفترض كفيل بأن يجيب الكاتب.