أزعم في هذه المقالة أن من أهم السمات البارزة في كتابات المرأة هو حضورها داخل نصوصها، لقد عملت المرأة سعيا منها لتحقيق ذاتها على أن تنافس الرجل في كل مجالات الحياة، ومنها الإبداع، الذي كان ومازال الرجل فيه فارس الميدان دون منازع، فكبار الرسامين والممثلين والشعراء والروائيين هم في العادة ذكور، ولقد عرف العرب هذا التفاوت فعدوا الشعر فحولة، وربطوه بالذكورة والفروسية، ومعنى ذلك أنهم أقصوا الأنثى أو كادوا، حتى عرف عن الفرزدق قوله «إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها». ورغم أن المرأة العربية قد حاولت أن تتديك، غير أنها لم تنسلخ مطلقا من أنوثتها، وظلت لا تصدر إلا عن هذه الأنثى، وهو ما يتبين لنا من الخنساء مثلا، والذي ظلت فيه بكاءة شكاءة، تندب فراق أخويها، صخرا ومعاوية، فعل حققت هذا الانسلاخ في تجربتها المعاصرة شعرا ونثرا ؟ ، هذا سؤال سأحاول الإجابة عنه من خلال مجموعة قصصية بعنوان «حب في الكف» لنسيمة بن عبد الله، وهي مجموعة صدرت عن اتحاد الكتاب الجزائريين سنة 2004، ضمت اثنتي عشرة قصة، ورغم ما اتسمت به الأديبة من تميز إلا أنها بقيت بعيدة عن الأضواء النقدية. المرأة ...العتبة الأنثى يعد العنوان «المفتاح السحري لولوج النص» لأنه أول ما يصادف المتلقي في العملية القرائية، وبقدر ما هو «بنية مستقلة تشتغل دلاليا في فضاء خاص بها»، فإنه أيضا «علامة دالة على النص»، ومن هذا المنطلق سنسعى لمقاربة عنوان «حب في الكف» وهو لفظتان» حب والكف» ، توحي الأولى باللطف والرقة وقد أكد ذلك وعمقه ورودها نكرة، وتوحي الثانية بالقوة والمنعة والشدة، وقد أكد فيها ذلك ورودها معرفة، ورغم أن الأولى «حب» وردت في تركيب الجملة خبرا لمبتدأ محذوف يمكن تقديره، ورغم أن له مكان العمدة في الجملة وأنه تحلى بثوب الرفع، فإنه ظل مجرد سجين بين قضبان الكف، ولعل العنوان يستحضر أول ما يستحضر المقولة الشائعة «عصفور في اليد»، فإذا كان الحب بديلا عن العصفور، فقد تأكد ما يتصف به هذا القلب من رقة و لطافة وجمال وضعف في الآن ذاته، وليس ألطف ولا أرق ولا أجمل ولا أضعف من الأنثى، وكم يكون الكف قاسيا حين يحاصر العصفور، المرأة، الحب، فيحرمها حركتها و حريتها و انطلاقها. ويطغى حضور الأنوثة في علاقتها بالرجل في هذه القصة، طغيان التابع والمتبوع، والعبد والسيد، فلا معنى للمرأة إلى في رحاب الرجل، وهو ما تؤكده الكاتبة في أكثر من موضع في هذه القصة التي اتخذت الكاتبة عنوانها عنوانا للمجموعة، تقول: «الرجل حياة المرأة» ، وتقول: «الرجل ذاكرة المرأة» ، تبدأ القصة بجملة تقولها المرأة «الليلة أغادر معبدك الورقي» ، وتنتهي بجملة يقولها الرجل «الليلة أنام ملء جفوني» ، وشتان بين الجملتين، وبين الحالتين، حالة عابد يغادر معبد الإله منكسر الخاطر، لأن الإله لم يعبأ به، وحالة معبود متغطرس لا يأبه بذهاب عبده المنكسر، بل يعتبر ذلك تخلصا منه سيمنحه الراحة والطمأنينة، مما يوفر له جو النوم ملء جفونه. إن كف الرجل ذي الأصابع القوية الفولاذية الجبارة تظهر في ألفاظ تصر الكاتبة على تكرارها، ومنها «معبدك الورقي، إقامة الصلوات، أجثو عند قدميك، أتكوم أمامك، الولاء، الطاعة، ركعت في معبدك، أدخلتني مملكتك، أركان معبدك، لِيَد الأقدار، ولجت معبدك، سأغادر هذا المعبد»، وهو تكرار يدل كما يرى « جون بيار ريشار» على الهوس، ولا تغادر الكاتبة دفء الأسرة حين تتوجه بإهدائها قصصها إلى أبويها وإخوتها، مقدمة الأب على الأم «إلى أبي وأمي» على غير عادة ما نقرأه في مثل هذه المواطن، وهو تقديم له دلالته دون شك، وهو تأخير له مقصديته دون ريب، وهي حين تهدي العمل أسرتها تذكر ما يربطها بهم، فهم أحبتها، نبع عطائها، فخرها واعتزازها، رياحين حياتها، إنهم في آخر المطاف سجن آخر تسعى المرأة أن تحيط نفسها بسياجه الحصينة، وجدرانه العالية، حماية لنفسها من ضعفها الأنثوي. بل ويمكن أن نتلمس ذلك أيضا من الكلمات التي دبجها على غلاف الكتاب نقاد باحثون، هم سعيد بوطاجين، سليم قلالة، علاوة وهبي، والذين كتبوا جملا فيها إشادة بالمجموعة القصصية، ولا أتصور ذلك إلا أن الكاتبة كانت في حاجة إلى شرعية من الرجل/ الناقد، لتكون جواز سفر لعبور كتاباتها، إلى المتلقي. الحقيقة أن المرأة المبدعة تعاني ثقتها بنفسها، تعاني إحساسها الدائم بالدونية، ترغب دوما أن تظهر خلف حجاب، ولا حجاب أكبر من حجاب الرجل، ولذلك كثيرا ما نرى المرأة المبدعة تلجأ للاختفاء خلف الأسماء المستعارة، وهو ما نلاحظه في أديبتنا نسيمة بن عبد الله التي اتخذت اسما مستعارا لها هو «زهرة الريف»، وهي ظاهرة ارتبطت حتى بكبار الكاتبات والمبدعات، ولا عجب في تصوري، فالموروث الديني يجعل دوما المرأة تابعة للرجل، ليس أكثر من أنها خلقت من ضلع أعوج، أهم ما تتصف به القصور والعوج والتبعية، يقول تركي علي الربيعو «خطيئة آدم عابرة وعرضية، يمكن أن يمحوها بذبح عظيم، أما حواء فخطيئتها أصلية وأزلية وتشكل بنية وجودها، فقد خلقت من ضلع أعوج ومن ميسرة الرجل، وتحالفها مع الشيطان هو انعكاس لحقيقتها ونتيجة لأصل تكوينها «. .يتبع