تحضرني الآن صورة أحد الوافدين إلى مدينتنا، ذات زمن كانت فيه جداتنا سيدات الحكايا وغازلات الكلام، صادفناه ونحن أطفالا بعد أن استقر به المقام وتزوج من أجمل جميلات المكان، وأصبح بذلك جدا من أجدادنا الحكماء الضالعين في العلم والمعرفة. كان له عرش من الأحفاد، ربما كنا نحن أيضا أحفاده. أتذكر، إطلالته الأسطورية وتفاصيله الجميلة، أناقته، هدوءه، لباسه الناصع البياض، سلهامه ولفة رأسه وألبسته الشبيهة بألبسة الأمير عبد القادر وعمر المختار. كان فارع القامة، أشقر اللون، بحري العينين، طويل الشعر واللحية، لونهما بياض الثلج ولمعان النور. أتذكر أننا كنا نناديه بابا نوويل لأنه كان يشبه الصور الكبيرة المعلقة على حيطان المدرسة وفي واجهات المحلات وتلك التي كنا نصادفها في كتب القصص والحكايات الملونة. لم يكن يظهر مع الناس إلا يوم الجمعة والأعياد. يخرج من بيته متعطرا، متزينا وبألبسة دوما بيضاء كأن كل الأيام أيام عيد، أو كأنه العريس الموعود، يأذن ويأم بالمصلين ويعود إلى البيت في كل مرة مع ضيوف جدد يتقاسمون معه قصعة الطعام، لكن باقي أيام الأسبوع فهي لنا، لا يأكل إلا معنا نحن الأطفال إناثا وذكورا متحلقين حول مائدته في وسط الحوش العربي، يلعب معنا ويداعبنا وكأنه طفل في سننا لكن بعقل أوعى وأنضج، يأخذ عيدانه السحرية و قصبته الطويلة ويعلمنا واحدا واحدا الكتابة والرسم في الرمل وفي الماء. كان مولعا بالحناء تزين كفيه ورجليه وتعطر جسمه كل موسم وكل عيد وخاصة رمضان وعاشوراء، كما كان لصينية القهوة معه طعمها الخاص وسحرها المتميز، إذ لا زال عطرها ورائحتها الزكية في ذاكرتي ومسامي إلى حد الآن، القهوة بماء الزهر والقرفة والشيح والفلفل الأسود والزنجبيل. كانت إطلالته دوما إطلالة حكيم أو ملاك، بهدوئه ورزانته وصفاء روحه وبحضوره الكبير وكأنه جماعة وليس فردا. كانت له طقوسه العجيبة، والتي كان يمارسها وكأن لا أحد يراه، لا يبالي بمن حوله وكأنه غائب محمول على أجنحة فراشة يخط الكلام على كفيه أو يشتته ويزرعه في الهواء. كنا نسمع ونحن أطفالا، النساء يهمسن لبعضهن البعض وهن يرددن «يا لطف يا لطيف» « مسلمين مكتفين»، بأنه كان متزوجا بروحانية، حتى أصبحنا بفضولنا ننتظر إطلالته بشغف وما تحكيه النساء عن توزيعه للوقت بين زوجته من الإنس وزوجته من الجان، والتي يقال أنها كانت حورية من حوريات الجنة تأتيه مع صلاة المغرب وتغادر بعد صلاة الفجر، يهيئ لها أجمل ما لذيه. يقال أنها زوجة سخية من الكائنات الأخرى غير المرئية، لم تأخذه كله، كانت عادلة وقسمت الوقت بينها وبين زوجته الطبيعية. كان هذا هو المعتقد السائد؟! .. بين الحين والآخر، كنا نسمعه يتمتم لغة غريبة موزونة ودقيقة وكأنها مجموعة من الشيفرات والألغاز، ومرات يتكلمها بصوت عال جميل وكأنه يرتل شيئا مقدسا أو يقول شعرا. كان صوته من أجمل الأصوات، وبالرغم من سنه المتأخر لم يتوقف لا عن الآذان ولا عن الصلاة بالمصلين يوم الجمعة والأعياد في حيّنا العتيق والجميل، الذي كان ينظفه بنفسه كل مساء وهو يردد بصوت مسموع « النظافة من الإيمان والوسخ من الشيطان» علّمنا الكثير من أشياء الحياة بحس الحكيم الطيب لا الآمر الناهي. كان يؤكد لنا دوما أن الحياة جميلة وهي هبة تأتي مرة واحدة فقط ولا يجب ان نفرط فيها مهما قست ومهما تجبرت ومهما لانت مع غيرنا وتركتنا على الحواف. كان يقول: « لا بد أن ننبت للأمل أجنحة من فرح وأن نضع اليأس في خابية مغلقة « كان يجمعنا نحن الفتيات بمختلف الأعمار وعلى مسمع من الصبيان ومن كل رجال الدار، ويوصينا : « كونوا نسا فحلات يا بناتي ، الزمان لي جاي ما راح يرحم لا نسا والرجال «