في البدء ما كان لي أن أتدخل لولا اللغط الكثير الذي صاحب صدور رواية سلاطين الرمل للأديب الدكتور بلحيا الطاهر، فمنذ أن تسربت الأخبار عن ظهورها في صائفة 2010 والناس لا يتوقفون عن الحديث عنها، وعما قد تثيره من نبش للجراح، وعن الإشكالية القديمة الجديدة، متمثلة في نصيب أحداث ثورة التحرير المباركة في حيثيات النص الروائي، بمعنى هل كان الكاتب واقعيا إلى حد ذكر بعض الأسماء..؟ أم أنه جعلها رموزا لأبطال حقيقيين، شاركوا في وقائع سلاطين الرمل النص وليس التاريخ، ذلك لأن هذا الجدال العقيم قد طال أمده مع أن بلحيا الطاهر قد نشر توضيحا مطولا في جريدة الخبر، يؤكد فيه على أن النص الروائي شيء، والأحداث التاريخية شيء آخر، وقال بصريح العبارة: (( أنا لست مؤرخا، ولا أريد حديثا عن تاريخ )) قال أنا مجرد روائي استلهم أحداث التاريخ لأصنع منها مستقبلا زاهرا للأجيال الجديدة.. وهو ما يقودنا نحن كذلك أن نسهم في إضاءة بعض الجوانب التي نرى أهميتها في النص الروائي، من جهة وأحداث الواقع من جهة ثانية، وذلك لأن الرواية تحتوي على بعض العروض الدرامية المؤثرة جدا من تلك التي كان يمارسها عساكر العدو، وقد ذكرت في أدبيات الثورة في مختلف القرى والمداشر، إلا أنها هنا ترتبط بقرية عسلة المثل الصارخ النموذجي لجميع أماكن الوطن، كما عرضت أوضاع المجتمع عموما في تلك الحقبة، وهنا أسجل بأن الأديب قد وفق إلى أبعد الحدود ولعل القارئ يشعر بالجهود المبذولة من طرف الكاتب لتوصيف ما حدث بالضبط، جهدا معتبرا يتضمن الظهور الفعلي لمقتضيات الثورة و ما جرى لمحتشد عسلة على سبيل المثال، وهي القرية الصغيرة التي كانت تقع في القسم الثالث، الناحية الثانية من المنطقة الثامنة من الولاية الخامسة. من الناحية التاريخية الواقعية كان المحتشد يضم (( 946 ))خيمة، وهو عدد أسر وعوائل قبيلة أولاد سيدي أحمد المجدوب، بدوابهم وما يمتلكون من قطعان، مكبلين بالأسلاك الشائكة التي تمنعهم من التحرك، وفي حالة أن أوقع المجاهدون اشتباكا مع عساكر العدو، فإن الانتقام يكون جماعيا من أفراد الشعب التفتيش المباغت البحث عن ناشطي الثورة القتل التعذيب المداهمات الليلية، التي كان يختص بها وحدات اللفيف الأجنبي، أولئك المتعجرفون الذين لا رحمة في قلوبهم، فلا تسمع إلا عويل النساء وهن يستغثن بالقدر الإلهي، وصراخ الأطفال الجياع وهم يرتعدون من هول المناظر البشعة للجثث المشوهة، والمشاهد الحزينة، من تلك التي سيحفظ التاريخ بأن فرنسا قد ارتكبتها في عسلة، بما تتخلله زمجرة لصاص وهو يتوعد الجميع بالقتل والتعذيب لكل من ثبتت له صلة ( بالفلاقة ) ربما تكون هذه المشاهد الرهيبة قد أثرت في ذاكرة الأديب بلحيا الطاهر، وأصبحت بالتالي تمثل مشهدا مجسدا في سلاطينه الذين هم الشهداء بأنفسهم، هم أولئك المبجلون، فهو يعرض وضعا مزريا، تكون قد عاشته قبيلة أولاد سيدي أحمد المجدوب، ومعها أسرة مولاي الهاشمي الشهيد البطل،وأهل عسلة، ومعهم الأسر في كل شبر من هذا الوطن، ولأن النص الروائي يرتكز في كثير من الحالات على بعض الصور والمشاهد الواقعية، فلعل الهدف المقصود هو لتحقيق تأثيرات نفسية وجمالية يكون القصد منها تبجيل الوقائع التاريخية لكونها نابعة من أعماق الحدث الثوري. وهي في الوقت نفسه، تمثل حلقة تواصل تذكرنا بالماضي القريب، وتجعلنا نقدس أبطالنا، وتثمن فينا غريزة الإعتزاز بالمناقب الخالدة، حتى لا ننسى. سلاطين الرمل بهذا المعنى الذي حاولت توضيحه، هو لحظة تذكر بواسطة حوار شيق يجعلنا نتواصل مع شهداء الثورة المباركة، كما أنها يجعلنا نساهم في بناء قدسية نبيلة ترتبط بالشهداء وتعود إليهم، ساقها بأسلوب يناسب أذواق أهل المنطقة، وذلك من خلال تركيزه على الوعدة التي تشهدها عسلة كلما حل شهر أكتوبر، صبغها بتعبيرات شيقة وعلى درجة عالية من الجمال اللغوي الأخاذ، ربما كان هدفه أن يتجول بنا في جبال عسلة ومناطقها المختلفة، وبالتالي يجعلنا نتعرف على إحدى أهم وأنبل قبائل المنطقة، وهي أبناء سيدي أحمد المجدوب، حتى أنه يبالغ في توصيفهم وذكر محاسنهم، وذلك لكي يجعل القارئ لا يمل ولا يكل. كما أنني ألاحظ بأن الرواية لا تعتمد الخيال الجامح، ولا تلك التصورات الباهتة التي قد ينسجها الخيال، مكتفيا بذكر أشياء لا علاقة لها بالواقع، أتصور بأن بلحيا الطاهر كان يؤرخ لبعض الأحداث التي وثقها، لكنه ألبسها مسحة قصصية شيقة، وزادها بعض الغموض لبعض الأحداث، والوقائع من تلك التي كانت تقع هنا وهناك في تلك الجبال الرهيبة، ولأن الثورة التحريرية المباركة لا تعرف الحلول الجزئية ولا تخضع في قراراتها لتحليلات مجازية ، بل تبقى كما هي ،لذلك جاءت تعابير النص بالكيفية التي يتسنى بها المعنى الإجمالي للموضوع نتيجة الإحساس الصادق لهذه الملحمة الشاهدة على بشاعة الأفعال الإجرامية للاستعمار الفرنسي فبقيت الأحداث أزلية في ذاكرة الأديب، حينما دخل المحتشد مع أسرته خلسة و بأسماء مستعارة حتى لا يتعرضوا للقبض عليهم من طرف الاستخبارات الفرنسية لان عائلة بلحيا و حيتالة كانتا محل متابعة من ضمن الأسر التي كانت مراكز سند للثورة من تأسيس الزعيم بوشريط . النص الأدبي يضع بين أيدي جمهور القراء مجموعة من التعابير اللغوية تمكننا من فهم المعنى الرمزي للثورة و في ذات السياق تبحث عن قراء لهم قدرة على استخلاص المعنى حتى لا يبقى النص في متناول العامة لأنهم لا يتعاملون مع النص، و بالتالي يسيؤون الفهم لمحتواه الأدبي بتداعي المظان الأكثر تفاهة بعيدا عن واقع النص و محتواه الأدبي ، إذ ينبغي تجديد الثقافة بشكل عام و تنوعها على نحو دائم و مستمر حتى تبقى قيم الثورة هي الأداة لواقعنا و الاطارالامثل الذي يحافظ على توازناتنا المستقبلية ،خلافا لما يدعيه تيار التغريبيين من اجتهادات التشكيك لكل ما له صلة بالمبادئ. فالثورة هي آثار أحداث خالدة إذ لا تكمن الصعوبة في وقائع أحداثها بقدر ما تكمن في التكتم في بث أخبارها و بهذا الاعتقاد المشين أصبح عنصر التشويش يخيم بظلاله على إرادة الفعل الأدبي و الإبداعي للمنتوج الثوري. إن التعرض لذكر بعض الأحداث التي مرت بها الثورة في المنطقة لا يعني الإساءة بقدر ما نرى فيه مثالية و انصياع تام لتنفيذ الأوامر و هي احد عوامل نجاح الثورة ،بينما الإثارة تكمن في ردود الفعل بالدعوة إلى مزيد من المساهمات في إثراء تراثها لتبقى مآثر الثورة هي الصلة المثلى من بين الشروط القائمة في المجتمع المعاصر و بين التاريخ ، و بتعابير أكثر ملائمة لحرية الفكر و الإبداع ، و لذلك نجح النص في اختراق حواجز نفسية أثبت نجاحه للمشاركة الواسعة للقراء من اطلاع المثقف العامي إلى غاية المتأمل الجوهري بعدما انحصرت المطالعة دهرا في مستويات معينة و هذه ميزة لمثالية النص الأدبي الذي امتاز به صاحب الرواية.