في مدينة “بوسعادة” (نحو 240 كلم جنوب شرق الجزائر العاصمة)، تدير مجموعة من الشباب “المطعم الأبيض” الذي بدأ فكرة بسيطة وأصبح مشروعا مبتكرا فريدا من نوعه في الجزائر، يقدم وجبات مبتكرة من مشتقات الحليب. راودت فكرة المشروع عائلة محمد سقاي التي ورثت عن أجدادها مهنة تجميع الحليب ومشتقاته، التي يعرف بها أهل المنطقة ذات الطابع الفلاحي منذ العام 1919. يقول محمد في حديثه للجزيرة نت “فكرنا كعائلة في استغلال خبرتنا في تجميع الحليب والاستثمار في مجال السياحة الفلاحية من ناحية الطعام، بحيث نعكس تقاليد وطبيعة منطقتنا”. من هنا بدأ سقاي مشروع “المطعم الأبيض” بمشاركة زوجته وابنته وابنه، قبل أن تنضم إلى المشروع مجموعة من الشباب تحولوا إلى عائلة بعد ذلك، وهنا يضيف “لقد أسسنا المطعم الأبيض هنا، والشباب الذين يعملون معنا يقيمون هنا أيضا، وأعتبره مشروعا عائليا”.
إحياء عادات وتقاليد الأجداد لم تكن العائلة تحتاج إلى مصنع ضخم للنجاح، وإنما إلى يد عاملة شابة وأفكار مبتكرة عثرت عليها في تقاليد وعادات الأجداد الذين كانوا يجمّعون الحليب ومشتقاته مثل الزبدة ويخلطونها لإعداد مواد غذائية تقليدية يتم تخزينها للاستهلاك في الشتاء لمقاومة الجوع والبرد الشديد في منطقة بوسعادة. وهي العادات التي كانت العائلة تتطلع إلى تطويرها وإعادة بعثها من جديد في شكل وجبات مبتكرة مصنوعة من الحليب ومشتقاته تقدم للزبائن والسياح. يقول محمد “كان أجدادنا يخلطون الزبدة مع مربى التمر ويحفظونها في جلد الماعز وتسمى العكة، ومن هنا استوحينا فكرة تقديم خليط الزبدة مع مربى التمر كتحلية مع الأطباق لزبائن المطعم”. وهكذا بدأت العائلة تأخذ وصفات الأطباق التقليدية وتطورها وتنوعها لإعداد وجبات مبتكرة وإنتاج الأجبان، حيث بدأ الشباب يديرون مخبرا صغيرا للخمائر اللبنية وينتجون الأجبان الطبيعية والأجبان المضغوطة ونصف المضغوطة، والأجبان الطرية وغيرها. وتنقسم هذه الأجبان إلى ثلاث فئات هي: أجبان مصدرها الأبقار، وأجبان مصدرها الماعز، وأجبان مصدرها الأغنام.
وجبات بيضاء بمواد طبيعية يقدم الشباب مختلف أنواع الألبان والحليب الطازج بما في ذلك حليب الإبل وحليب الماعز للزوار، ولكنهم قبل ذلك يسألون الزبون أو السائح الذي يزور المطعم، إذا ما كانت تلك زيارته الأولى، إذ في هذه الحالة يقترحون عليه طبقا منوعا يضم مختلف الوجبات لتذوقها، ثم يحرصون على تقديم شرح بسيط حول مكوناتها وكيفية إعدادها. ويضم هذا الطبق المنوع عينات صغيرة من مرق بالجبن مضاف إليه زيت الزيتون والفلفل الأحمر، وجبن بزيت الزيتون والزيتون المجفف، وجبن بقر طري بتوابل الثوم أو الفلفل الأخضر، وجبن باللحم المفروم، وجبن بالدجاج، وجبن أحمر بالزعتر، وغيرها من الوجبات التي تقدم معها تحلية مصنوعة من الزبدة بمربى التمر أو الزبدة بعسل النحل، بالإضافة إلى أنواع الخبز الجزائري التقليدي المسمى “الكسرة”، سواء المصنوع من السميد أو القمح أو الشعير.
قاعة خاصة للحفلات التراثية في “المطعم الأبيض” يمكن للزائر الاستمتاع بهدوء المكان الواقع في منطقة ريفية وبنكهة الوجبات البيضاء المصنوعة من مشتقات الحليب، ولكن بإمكانه أيضا الاستمتاع بحضور إحدى الحفلات التقليدية التراثية التي ينظمها المطعم من وقت لآخر في قاعة صممت خصيصا لتعكس أصالة وتقاليد وتراث منطقة بوسعادة. ووسعت العائلة مبنى المطعم ليسع قاعة حفلات بنيت جدرانها بالحجارة وسقفها وأعمدتها من الخشب. ويشرح أحد الشباب الذين يديرون المشروع في حديثه للجزيزة نت أنهم بنوا جدران القاعة بحجارة خاصة، كل جدار جلبت حجارته من جبل من جبال بوسعادة، وهي جبل كردادة، وجبل الويزة وجبل عز الدين. ويضيف أن “السقف والأعمدة بنيت من خشب عمره تسعة قرون، جمعناه من البنايات القديمة للمنطقة مثل دار الزوالية، والقصر، ومسجد النخلة، وبعدها أعدنا تهيئته واستعماله”. وتبدو قاعة الحفلات من الداخل كمتحف يعكس تراث وتاريخ منطقة كاملة، بجدرانها المصنوعة من الحجارة وفراشها المصنوع من الحَلفاء، وبعض الأدوات التقليدية التي تزين زواياها الأربع، وشكل البئر في الجهة اليمنى، والطاولات المصنوعة من الخشب كسقفها، توضع عليها الوجبات البيضاء المبتكرة التي تستقطب السياح. يقول سقاي “نجحنا في استقطاب عدد معتبر من الزوار والسياح لا سيما الأجانب، بينهم السفراء الذين يفضلون حضور الحفلات التراثية بشكل خاص”. ومع النجاح الذي حققه المشروع، يتطلع الشباب اليوم إلى توسيع استثمارهم أكثر وبناء مرافق جديدة لاستقطاب المزيد من الزوار، على رأسها حديقة ألعاب للأطفال من أجل جعل المنطقة الفلاحية وجهة للعائلات، وفندق لتوفير الإقامة للسياح.