تبدو الخرائط المتعلقة بمكامن الغاز الطبيعي المكتشفة في شرق المتوسط والمحتملة، على درجة من التعقيد التي تصيب بالإرهاق، ويعتريها العديد من الخلافات السياسية والقانونية، وتتصاعد معها احتمالات تطور الاحتكاك الجاري إلى الدخول في منطق فرض الأمر الواقع بالقوة. بداية، توجد مبالغة كبيرة في الوزن النسبي للغاز المتوفر، والمتوقع توافره في المتوسط، مقارنة باحتياطيات الغاز على المستوى العالمي، فحقل الشمال بين قطر وإيران يفوق حقل ظهر المصري الأضخم في شرق المتوسط، بأكثر من أربعين مرة، ومصر صاحبة الثروة الكبيرة نسبياً قياساً بالدول المتنافسة، تحتل المرتبة السادسة عشرة على العالم على مستوى احتياطيات الغاز العالمية. تدفع حالة التوتر التي قد تقود، وتترجم نفسها في صراعات دبلوماسية وتجارية، وربما تتطور إلى اشتباكات عسكرية في المنطقة، إلى التساؤل حول تكلفة وجدوى الصراع نفسه، والإجابة تتأتى من أوروبا تحديداً، فالغاز في المتوسط قريب من القارة الأوروبية، التي تحتاج إلى تأمين كميات كبيرة من الغاز، خاصة في فصل الشتاء القارس، بالإضافة إلى رغبتها في التحرر من سطوة الدب الروسي، الذي يعتبر مصدراً للإزعاج والإحراج على المستوى السياسي في أوروبا. ولذلك ظهرت وبطريقة متسارعة قطر على الخريطة السياسية للمنطقة، منذ انطلاق عمليات إنتاج الغاز في حقل الشمال في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وعلى الرغم من حاجة السوق الآسيوي للغاز القطري، وتواجد كوريا الجنوبيةوالصين، في مقدمة الدول التي تستورده، إلا أن السوق الأوروبية تمثل أيضاً فرصة كبيرة بالنسبة للقطريين. تواصلت المحاولات الأوروبية لإحلال الغاز القطري مكان الروسي، ووجدت قطر نفسها في حاجة إلى التحالف مع تركيا، بوصفها مدخلاً لأوروبا، وهو التحالف الذي يتقاطع مع التواجد الروسي في سوريا، ويفسر الاندفاع الروسي تجاه تأمين مصالحه بالقوة في المنطقة، ومع الوقت أصبحت قطر عملياً الضيف الثقيل في شرق المتوسط، وتحولت في فترة قياسية من صديق لكثير من الدول في المنطقة، إلى طرف يهدد مصالحها بعد تتابع اكتشافات حقول الغاز. وسط هذه التطورات الجارفة وجدت مصر نفسها في موقع الدولة الوحيدة، التي تمتلك البنية التحتية لتصدير الغاز بكثافة تجارية، واستطاعت أن تتوصل إلى تفاهمات مع إسرائيل، تجنبها الاستثمار في تهيئة صناعات متعلقة باستخراج ومعالجة الغاز، والاستعانة عوضاً عن ذلك بالمنشآت المصرية، ومع ذلك بقيت تقديرات مصر، تحمل تركيزاً عالياً على المدى القصير، فالتحول إلى مركز للتصدير يتطلب أصلاً تواجد الاحتياطيات التي تفوق ما يتوفر لمصر وغيرها في شرق المتوسط، وما سيحدث هو قدرة مصر على الحصول على حصة سوقية، ربما لن تحمل الاستدامة طويلة المدى. لا يمكن استبعاد الغاز القطري والسوق الأوروبية المتعطشة لإمدادات غاز غير روسية من معادلة العلاقات المضطربة، أو غير الصحية على الأقل، مع مصر منذ عهد الرئيس مبارك، إذ كان من الصعب لمن لا يفكر في الأسباب الاقتصادية الكامنة وراء الفعل السياسي، أن يفسر حالة التراشق الإعلامي بين بلد كان يخطو حثيثاً للوصول إلى 80 مليون نسمة وقتها، وبلد لم يكن وصل حاجز النصف مليون نسمة، ولذلك توطدت العلاقات القطرية السورية في مرحلة ما، وكانت قمة الدوحة 2009 تؤشر إلى تحالف وثيق مع السوريين، يواجه تحالفاً آخر مثلته الدول التي اعتذرت عن حضور القمة، لاختلاف رؤاها ومواقفها أو لعدم رغبتها في تعميق الانقسام العربي، كما بررت اليمن صراحة، وتونس والمغرب ضمنياً. مع تفاعل الأزمة السورية، وانتقال تركيا من وضع صفر مشاكل إلى الاشتباك الموسمي مع الجميع، أخذت الفوضى المرتبطة بملف غاز شرق المتوسط في التصاعد، ولعبت مصر على الوتر اليوناني، لتدفع الأتراك إلى خانة حرجة مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما ردت عليه تركيا بالاتفاق البحري مع ليبيا، لتدخل المشكلة في فصل جديد من التسخين، يدفع بأطراف ليبية للحديث عن مواجهة عسكرية حتمية مع تركيا! وهو الأمر الذي يثير الاستغراب في ظل موازين القوى المباشرة، ويستدعي البحث عن موازين أخرى غير مباشرة. يمكن لأي عاقل في العالم أن يسترخي قليلاً، وأن يدرك أن تكلفة حرب في شرق المتوسط، ستتجاوز بكثير ما تنتظره المنطقة من عوائد للغاز المكتشف، وأن هذه المنطقة التي تمتلك مزايا أخرى تستنزف نفسها بصورة غير عقلانية، خاصة أن من المنطقي أن تسعى دولة مثل مصر إلى البحث عن تأسيس قاعدة صناعية يستلزمها وجود الغاز والقدرة على معالجته، بدون الحاجة إلى الشركات الأجنبية، التي وضعت الحكومة المصرية في أزمة كبيرة عندما تزايدت مستحقاتها المالية على مصر بعد ثورة 2011. التأزم التركي المصري يكاد يكون صراعاً مجانياً تحركه الأنا الجمعية المتضخمة في البلدين، والأنا المتعلقة بقيادات البلدين أيضاً، والتمسك في فرصة تحقيق مصادر السيولة السريعة والريعية، من خلال الثروات الطبيعية هو تفكير لا يتناسب مع مصر وتركيا، بكل الفرص الأخرى، التي يجب النظر فيها جدياً مثل، التحول إلى مراكز صناعية مهمة في وسط العالم، والتبريرات المريحة مثل تكلفة العمالة الآسيوية تكاد تنطوي أمام الموقع الاستراتيجي ووجود مجموعة من الخامات المرتبطة بالمنطقة، والتخوفات القائمة أصلاً من زيادة اعتمادية العالم على الصين، والرغبة في وجود بدائل أقرب حضارياً وثقافيا، تستطيع أن تتصدى لصناعات عديدة بصورة تنافسية. الثروة الطبيعية ليست ميزة في حد ذاتها، وقد تتحول إلى لعنة عندما تستولي على تفكير أي قيادة سياسية، خاصة أنها تدفع للتفكير في الحلول السهلة والسريعة، كما أن الثروة الطبيعية المتواجدة في العالم الثالث، لم تستطع أن تدفع لأي تقدم، وكانت عمليات التطوير تدفعها الحاجات المختلفة لمواجهة تحديات الطبيعة في الشمال الغربي من أوروبا، وتحت مطرقة الاستعمار جرى الاستيلاء على مصادر الثروة الطبيعية واستغلالها، حتى دفعت التكلفة، وليس النوايا الحسنة، المستعمرين إلى الرحيل والإبقاء على السيطرة الناعمة على العالم الثالث. يعيش شرق المتوسط بين أشباحه، ويغرق في دور الوساطة، بينما تفكر أوروبا في الغاز من مصادر مريحة ومستدامة، ويمتلك القطريون والإيرانيون أيضاً، أسواقهم الكبيرة في آسيا، والمخرج أمام دول شرق المتوسط يتمثل في التركيز على المستقبل، الذي يقوم على رأس المال البشري والاستراتيجي، وليس التحول إلى الوساطة في لعبة لم تعتدها المنطقة، ولا تعرف كثيراً عن تفاصيلها، ولا يمكن أن تضعها بالفعل في المكان المناسب. القدس العربي