كاد الخليج العربي أن يودع عام 2019 بنبرة تفاؤلية نحو عام وعقد جديدين؛ ففي الربع الأخير من العام كان التصعيد الأميركي/الإيراني قد انخفض إلى أدنى مستوياته، وبدأ الحديث عن مفاوضات سعودية/قطرية لحل الأزمة الخليجية، ووصلت الكويت مع الرياض إلى اتفاق جديد بشأن المناطق المشتركة يُنهي الخلاف المستمر منذ أكثر من عامين بينهما. ولكن هذه النبرة التفاؤلية لم تدم طويلاً؛ فقد جاء التصعيد بين واشنطنوطهران، ثم عاد التراشق الإعلامي على أشده بين أطراف الأزمة الخليجية، ودخلت تحديات جديدة على الخط؛ وكان كل ذلك بين الأسبوع الأخير من 2019 والأسبوع الأول من 2020. لقد باتت منطقة الخليج العربي -التي كان يُنظر إليها سابقاً بوصفها واحة للاستقرار في محيط من الفوضى- تقترب سريعاً من محيطها، بل وتتجاوزه لتصبح هي بؤرة النزاع المتوقعة التي يسلط عليها المراقبون الضوء في هذا العام. ..طهرانوواشنطن.. سباق التصعيد بعد تراجع التصعيد بين واشنطنوطهران في 2019؛ تنفس العالم الصعداء بعد أن هدد الاعتداء على الناقلات في مياه الخليج -الأمر الذي لم تشهده المنطقة منذ نهاية الحرب العراقيةالإيرانية- واستهداف أرامكو بإشعال حرب خليج ثالثة، لا يسلم من لظاها أي طرف على ضفتيْ الخليج ولا أبعد من ذلك. ولكن الإيرانيين كان لديهم -على ما يبدو- رأي آخر. ففي مواجهة العقوبات القاسية على الاقتصاد الإيراني والتحديات الداخلية التي أفرزتها؛ اختار النظام الإيراني سياسة التصعيد المتحكَّم فيه لفترة، بمعنى أن تلجأ طهران -عبر وكلائها- إلى استفزازات مدروسة يصعب نسبها مباشرة إلى طهران، لكنها تربك الإدارة الأميركية وتضعف موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداخلي، وتشكّل ضغطاً على حلفاء واشنطن في المنطقة للدفع نحو حلّ يضمن رفع العقوبات ولو جزئياً أو تخفيفها. الرهان هنا كان يتركز في أن ترامب لا يريد مواجهة حقيقية في سنة انتخابية، ويمكن دفعه باتجاه تخفيف العقوبات حال توفر العصا المناسبة بالضغط المستمر، والجزرة بعرض التفاوض؛ ولكن أحداث الأيام الأخيرة من 2019 والأسبوع الأول من 2020 أثبتت عدم نجاعة هذا الرهان. في 27 ديسمبر 2019؛ أدى هجوم صاروخي على قاعدة K1 -في مدينة كركوكالعراقية- إلى مقتل متعهد أمريكي، ليكون القتيل الأميركي الأول في إطار التصعيد بين ترامب وطهران. وبما أن مقتل مواطنين أميركيين كان الخط الأحمر بالنسبة للإدارة الأميركية؛ فقد جاء الرد سريعاً من قِبلها باستهداف مقارّ القيادة والتحكم لكتائب حزب الله العراقي في العراق وسوريا، لتكون الحصيلة أكثر من 25 قتيلاً وكبرياء مجروح للفصائل الموالية لإيران في العراق وعلى رأسها الحشد الشعبي. ويبدو أن النظام الإيراني اعتقد أن نهاية المشهد ستكون بتلك المظاهرات الحاشدة حول السفارة الأميركية في بغداد، وصوّر كوادر الحشد وهم يحطمون زجاج إحدى بوابات السفارة؛ ولكن هذا العمل المعنوي في جُلّه كان حساساً بشكل كبير للرئيس الأميركي، لأن الاعتداء على السفارة بهذا الشكل يرتبط في الذهنية الأميركية عموما بأحداث عام 1979، حين اقتحم مؤيدو الثورة الإسلامية في إيران السفارة الأميركية في طهران، واختطفوا 52 رهينة أميركية ولمدة تجاوزت 14 شهراً. ولكن بالنسبة لترامب كان الرابط الأهم هو مع الاعتداء على منشأتين للولايات المتحدة في بنغازي عام 2012؛ حيث هاجمت عناصر من مجموعة مرتبطة بتنظيم القاعدة -أطلقت على نفسها اسم “أنصار الشريعة”- مقراً دبلوماسياً كان بمثابة سفارة أميركية هناك، وموقعاً لوكالة الاستخابارت المركزية الأميركية (سي آي أي)، ونتج عن الهجوم مقتل السفير الأميركي جاي كريستوفر ستيفنز وثلاثة من مواطنيه. هذا الحادث استغله ترامب كثيراً في هجومه على سلفه الديمقراطي باراك أوباما، ومن ثم على منافسته الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية (عام 2016) هيلاري كلنتون، التي كانت وزيرة للخارجية الأميركية عند وقوع الاعتداء في بنغازي. وبالتالي فقد مثّل الاعتداء على السفارة الأميركية في بغداد تهديداً خطيراً لسردية ترامب، الذي كان يقول دائماً إن بنغازي كانت فشلاً ذريعاً في القيادة. ولذلك اختار ترامب اغتيال قاسم سليماني –وهو قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني والشخصية الأبرز في نشاط إيران العسكري خارج حدودها- ليكون الرسالة التي يقدمها للداخل والخارج، ومقتضاها أنه لن يتوانى في رد الصاع صاعين لكل من يستهدف بلاده ووجودها الدولي. يقف العالم اليوم في حالة ترقّب -وخاصة بمنطقة الخليج- لمستقبل المواجهة بين واشنطنوطهران؛ ولكن ما لا شك فيه هو أن إيران لا يمكنها خفض مستوى التصعيد بشكل يضمن عدم سقوط ضحايا أميركيين، فهي -في مواجهة إصابتها بهزيمة معنوية وعسكرية باغتيال أبرز قادتها العسكريين- بحاجة لأن تُثبت قدرتَها على الرد وتماسك كيانها العسكري، وإلا أصبح وضعها مشابهاً لوضع نظام صدام حسين تحت العقوبات الأميركية. وأميركياً؛ تبحث إدارة ترامب عن مخرج للأزمة يجعل الصفعة الأخيرة أخفّ وطأةً بالحديث مع الوسطاء المرتقبين مع طهران، وتوجيه الرسائل المختلفة للنظام الإيراني والتي اتسم بعضها بالغلظة، مثل تهديد الرئيس الأميركي باستهداف 52 موقعاً إيرانياً بعضها ذو طبيعة ثقافية، والبعض الآخر يبدو دفعاً نحو التهدئة بالدعوة إلى أن يكون الرد “مناسبا”. موقف دول الخليج من هذه الموجة من التصعيد يبدو أكثر تجانساً مما سبق. ففي الموجة السابقة؛ كان هناك محور تهدئة قطري/كويتي/عُماني، ومحور تصعيد سعودي/إماراتي. ولكن بعد خذلان ترامب لحلفائه؛ تحوّل محور التصعيد إلى التهدئة السريعة مع إيران وخاصة بعد استهداف أرامكو. وأما في هذه الموجة؛ فقد دعت جميع الدول الخليجية إلى التهدئة وضبط النفس، ووجّه وزير الخارجية الأميركي شكره تحديداً -بادئ الأمر- إلى أبو ظبي والرياض لتفهمهما خطر إيران في المنطقة، ولكنه عاد ليوجه الشكر لقطر لجهودها في التهدئة، وخاصة بعد زيارة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لطهران. في حساب الأولويات؛ لا شك أن دول الخليج -وبالذات السعودية والإمارات- تقع ضمن نطاق الأهداف المتوقعة للرد الإيراني، إلى جوار الوجود الأميركي في العراق وإسرائيل، ويمثل تقاعس واشنطن عن الرد على الاعتداءات على السعودية تحدياً كبيراً بالنسبة لها، بل إنه قد يجعل من الأهداف السعودية رداً “مقبولاً” في السياق الأميركي. وفي الوقت نفسه؛ يعدّ هذا التصعيد فرصة للدوحة لإثبات نجاحها في لعب الدور الذي كانت تتقنه في المنطقة، وتراجعت عنه خلال السنوات الأخيرة؛ وهو دور الوساطة بين الولاياتالمتحدة وبعض خصومها سواءً كانوا دولاً أو فاعلين من غير الدول. وفي ظل مرض السلطان في عُمان، والتحديات السياسية الداخلية الكويتية؛ يبدو أن قطر هي اللاعب الأقرب خليجياً للقيام بهذا الدور. ..الأزمة الخليجية وتراجع التفاؤل مثّلت التصريحات الصادرة على لسان وزيريْ الخارجية القطري والسعودي -في مناسبات مختلفة- بشأن وجود مفاوضات مباشرة بين الطرفين لإنهاء الأزمة؛ بصيصَ أمل خافتاً تمسكت به الشعوب الخليجية على أمل طيّ أحلك الصفحات في تاريخ المنطقة، وبدا أن اللقاءات لا تدور حول ما سبق بل ما يمكن تحقيقه وشكل العلاقة التي يمكن رسمها بين الطرفين. وعلى إثر ذلك؛ يبدو أن قراراً اتُّخِذ بخفض حدة التصريحات الإعلامية -سواء على لسان مسؤولي البلدين أو عبر الإعلام الرسمي- التي تستهدف الطرف الآخر، وجاء تنظيم بطولة كأس الخليج في قطر وقبول دول الحصار -في اللحظة الأخيرة- المشاركة فيها فرصةً شعبية رسمية للتفاؤل بمستقبل أفضل للعلاقات الخليجية. هذا التفاؤل تراجع سريعاً مع هدأة التصريحات بشأن المصالحة بين الطرفين، وعودة لغة التصعيد على الأقل في مستوى الإعلام الرسمي، وخاصة في إطار ردة الفعل السعودية على قمة كوالالمبور التي شارك فيها سمو أمير قطر إلى جوار الرئيسين التركي والإيراني ورئيس الوزراء الماليزي. فقد عادت الصحف السعودية إلى اتهام قطر بشق الصف، والتحالف مع إيران وماليزيا وتركيا لإضعاف منظمة التعاون الإسلامي التي تقع تحت دائرة التأثير السعودية. ومن ثم لوحظت عودة إلى العناوين الرئيسية والمقالات الناقدة لقطر، حتى في إطار الحملة الشعبية السعودية على البضائع الواردة من جبل علي في الإمارات، والتي وُجّهت فيها سهام الانتقاد إلى قطر من قِبل بعض المؤثرين وكتّاب المقالات المحسوبين على مختلف دوائر السلطة السعودية، رغم عدم وجود أي رابط واضح أو حتى متصوَّر لقطر بهذه الحملة أو مسبباتها. كما أن تصاعد وتيرة الخلاف في ليبيا بين الأطراف الخليجية المؤيدة للواء المتقاعد خليفة حفتر، وعلى رأسها الإمارات والسعودية؛ وقطر الداعمة لحكومة الوفاق؛ شكّل رافعةً لتجدد الخلاف الخليجي، وخاصة بعد مصادقة البرلمان التركي على إرسال قوات لليبيا. ولكن رغم هذه التطورات السلبية لم يصدر أي تصريح من الطرفين يفيد بتوقف المفاوضات السعودية/القطرية. وعلى الأرجح؛ فإن الرياض معنية بالمصالحة ولكنها ليست مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية لقطر، خاصة في ظل التصعيد الحاصل في المنطقة بشكل عام. ومن ناحية قطر؛ لا يبدو أن هناك استعجالاً لديها لإنهاء الأزمة خاصة إذا كان ذلك يعني تنازلاً سياسياً لصالح الرياض، كما أن التعويل الأكبر هو على التفاوض مع السعودية بعيداً عن بقية الأطراف، وما يمكن أن يحققه ذلك من اختراق للتحالف الإماراتي/السعودي. ..ولاية عهد وخلافة جيل يحتل ملف ولاية العهد -على الأقل في أربع عواصم خليجية- أهمية بالغة، في ظل تقدم حكام هذه الدول في العمر وتعثر حالتهم الصحية؛ إذ تترقب المنطقة تسليم آخر مجموعة من الحكام عاصرت نشأة الدولة في الخليج ومسيرة التعاون فيه الرايةَ لجيل نشأ في كنف الطفرة فكان نتاجاً لظروفها. في عُمان والكويت تحديداً؛ يكتنف شيء من الغموض المستقبل السياسي نظراً لعدم وضوح سلسلة ولاية العهد. ففي عُمان التي لا يوجد فيها ولي عهد؛ يتوقع كثير من المراقبين أن يكون أسعد بن طارق بن تيمور –وهو الممثل الشخصي لجلالة السلطان ونائب رئيس الوزراء- المرشحَ الأوفر حظاً، نظراً لقربه من السلطان وخلفيته العسكرية، ومكانته على مستوى أفراد الأسرة الحاكمة ولدى العمانيين بشكل عام. ولكن تقارير تحدثت عن ابنه تيمور الأمين العام لمجلس البحث العلمي كخيار آخر، خاصة أن أسعد ابن عم السلطان قابوس مباشرةً، وأشقاؤه قد تجاوزوا جميعاً الستين عاماً. ولكن بشكل عام، ونظراً للطبيعة السياسية لعُمان وبلاطها السلطاني؛ فإنه لا يُترقب تغيّر كبير على مستوى السياسة الخارجية، ويُتوقع أن تظل عُمان تحت راية الحياد السلبي تجاه قضايا المنطقة. أما بالنسبة للكويت التي كان يجري فيها الحديث عن تأهيل الشيخ ناصر الصباح ابن سمو أمير الكويت كخيار يلي الشيخ نواف الأحمد، الذي هو ولي العهد وشقيق الأمير؛ فقد عادت الأمور إلى حالة الغموض بعد إقالة الشيخ ناصر، وإعادة تشكيل الحكومة التي استُبعد منها. وبالتالي يبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه لخيار جديد، خاصة أن ولي العهد -الذي يتمتع بسمعة طبية وقبول واسع بالكويت- يعاني من المرض وتقدم العمر، مما يجعل اختيار ولي عهد له أساسياً للحفاظ على الاستقرار السياسي في الكويت. ومع تزايد التقارير التي تتحدث عن خلافات بين أبناء الأسرة؛ تزداد الحاجة لحسم هذه الخيارات، خاصة أن سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد يعاني من تقلبات صحية تطلبت دخوله المستشفى عدة مرات خلال الأشهر الأخيرة. ورغم أنه يصعب التكهن بشأن الشخصيات التي يمكن أن يتم اختيارها في ظل الظروف الحالية بالكويت؛ فإنه لا يُستبعد أن يتحول سؤال ولاية العهد من سؤال افتراضي إلى واقعي خلال هذا العام. أما في الإمارات والسعودية؛ فإن الصورة مختلفة لأن الحكام الفعليين لهاتين الدولتين هم ولاة العهد، ففي حالة الإمارات فإن ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد يمارس الحكم فعلياً منذ ما يزيد على عقد، بل منذ وفاة والده تقريباً. ورغم أن الدستور الإماراتي ينص على أن رئيس الدولة يُنتخب من المجلس الأعلى الذي يضم حكام الإمارات؛ فإنه لا يُتصور أن يخرج الخيار عن محمد بن زايد الرجل القوي، الذي أنهى أي فرصة لظهور خصوم أو منافسين أو حتى مركز قوة ثانوي في الدولة. سعودياً؛ يكثر الحديث عن الحالة الصحية والقدرة الذهنية للملك سلمان، ولا شك أن محمد بن سلمان هو واجهة النظام وصاحب القرار الأبرز فيه، ولكن تراجع حضوره الدولي -نتيجة الإخفاقات المتكررة ومقتل الصحفي جمال خاشقجي- أثار تساؤلات بشأن إمكانية أن يخسر فرصته في الجلوس على العرش حال وفاة والده. ولكن إذا ما أخذنا في الاعتبار الإضعاف المتعمد لأقطاب الأسرة، وغياب المؤسسات في السعودية عن المشهد؛ فإنه يصعب تصور تغيير سياسي يُخرج بن سلمان من السلطة، وفي حال وصوله إليها رسميا فغنه قد يجد نفسه بحاجة إلى إعادة إنتاج توافق محلي وإقليمي يضمن استقراره في السلطة. يستقبل الخليج العربي عقداً جديداً وقد تبدد وهم الاستقرار من حوله، وطفت على سطح مياهه الخلافات داخله وخارجه؛ وما زالت الأسئلة الكبرى بشأن الدولة والتنمية والتركيبة الاجتماعية والعلاقات السياسية قائمة دون إجابات حقيقية، كما لا تزال دول الخليج -رغم حضورها السياسي في المشهد الإقليمي والدولي- مستقبِلة للتحولات الإقليمية لا صانعة لها؛ فهل يكون عام 2020 علامة فارقة إيجاباً أم سلباً في تاريخ هذا الجزء الصغير المؤثر من العالم؟ أم سيكون -كما سبقه من الأعوام- استمرارا لحالةٍ ظاهرُها الاستقرار وفي باطنها بذور لأزمات كبرى؟ الجزيرة نت