تبدو مسارات الصراع في الشرق الأوسط بالغة الكثافة والتعقيد، وتتسع دوائرها لتغرق العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وتتصاعد بانتظام المخاطر التي تواجهنا بها نحن شعوب هذه المنطقة الذين نحرم عمليا من الحق في الحياة وكذلك المخاطر التي تفرضها على السلم والأمن العالميين. في جعبة الشرق الأوسط، أولا، حرب ذات امتداد عالمي على الإرهاب تشارك بها قوى كبرى ذات مصالح يتناقض بعضها وقوى إقليمية تتبدل أولوياتها وسياساتها بعنف، وفي المواجهة داعش وعصابات إرهاب أخرى تتجاوز وحشيتها ودمويتها ما تراكم عربيا من فظائع وجرائم وخرائط دماء وتعتاش على بنية تطرف ديني لم تتغير خلال الأعوام الماضية وحقائق استبداد وظلم وتهميش تشتد وطأتها في بلاد العرب على نحو يومي. نحن، ثانيا، في معية حرب دموية في سوريا بين ديكتاتور مجرم وبين معارضين بعضهم لا يقل إجراما، والكثير من عناصر المال والسلاح والبشر الموظفة في الحرب تدفعها إما صراعات بالوكالة بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية أو تدخلات عسكرية مباشرة لبعض هذه القوى. لدينا، ثالثا، خرائط دماء متناثرة، تتداخل بمسبباتها تنويعات مقيتة من الاستبداد والطائفية والمذهبية والقبلية والاحتراب الأهلي وغياب السلم المجتمعي والتكالب على السلطة وانهيار مؤسسات الدولة الوطنية والحروب بالوكالة بين القوى الإقليمية مع جرائم الإرهابيين في العراق واليمن وليبيا. رابعا، تسوم سلطويات قديمة وجديدة مواطني البلدان العربية سوء عذاب القهر والظلم وانتهاكات الحقوق والحريات، ترتكبها أجهزة أمنية واستخباراتية يفرض عليها كوظيفة رئيسية حماية الحكام وليس حماية أمن الأوطان والشعوب. بعض تلك السلطويات يتورط في صراعات عنيفة على السلطة تهدد السلم المجتمعي، كما هو الحال في العراق التي تعاني أيضا من الإرهاب. وبعضها الآخر كالسودان شهد مواجهات دموية بين الحكم وبين حركات تمثل المناطق المهمشة حتى أطيح بالديكتاتور السابق. تندفع القوى الكبرى والإقليمية التي تتجاهل الأدوات السياسية لمواجهة صراعات الشرق الأوسط إلى لحظة خطأ مأساوي جديد في منطقتنا وإلى لحظة جديدة من تغييب العقل بتجاهل حقيقة أن مواجهة الإرهاب عسكريا فقط حتما ستفشل وأن الأولوية تظل للانتصار لحقوق المقهورين وببعضها الأخير يسود هدوء ظاهري يستند إلى تحسن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وتراكم الثروة والاستثمار التنموي لبعض مكوناتها، وخلف الهدوء توترات مجتمعية لها مسببات طائفية ومذهبية وقبلية وصراعات مكتومة على السلطة والثروة وتعريف الهوية الوطنية كما هو الحال في الخليج. تستمر معنا، خامسا، صراعاتنا المستعصية على الحلول التفاوضية والتي تتواطأ قوى دولية وإقليمية لكي تحيلها إلى خانات التجاهل، وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي وقضية حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني المغتصبة أرضه والذي تعمل الإدارة الأمريكية الحالية على تقنين اغتصاب الأرض من قبل إسرائيل وعلى تصفية القضية الفلسطينية بكافة مكوناتها، ومنها أيضا مسألة تقرير المصير للأكراد أصحاب المظلومية الممتدة تاريخيا، وبها كذلك الصراعات الحدودية بين بعض الأطراف الإقليمية. ثم، سادسا، وبينما يخلو الشرق الأوسط من منظومة إقليمية قادرة على الإدارة السلمية لمسارات الصراع الكثيرة وتتراجع به بقسوة الأدوار الفعالة لبعض البلدان صاحبة الثقل التاريخي والجغرافي والسكاني والحضاري مثل مصر والعراقوسوريا وتتخبط بلدان أخرى بين حروب بالوكالة وسياسات خارجية إما عنيفة أو غير مستقرة كالسعودية والإمارات وقطر، تتسع مساحات فعل ونفوذ القوى غير الدولاتية من حزب الله إلى داعش وتتحول تدريجيا إلى تقاسم «السيادة على الأرض» مع الدول الوطنية. ومع أن بعض مسارات الصراع الراهنة في الشرق الأوسط حضر حين جاءت تداعيات إرهاب سبتمبر 2001 بالجيوش الغربية إلى أفغانستانوالعراق، إلا أن حقائق شمولية وكثافة وتعقيد المسارات الراهنة تظل غير مسبوقة. كذلك يصعب التغافل عن كون التوظيف الأحادي للأدوات العسكرية والأمنية في مواجهة الإرهاب خلال السنوات الماضية لم يرتب سوى تراجع فاعلية «جيل» من عصابات الإرهاب فقط ليتبعه «جيل» لاحق من الوحشيين والدمويين من القاعدة إلى داعش، بينما تراكمت أزمات المجتمعات والدول الوطنية من غياب العدل والحق والحرية إلى غياب التنمية. واليوم، تندفع القوى الكبرى والإقليمية التي تتجاهل الأدوات السياسية لمواجهة صراعات الشرق الأوسط إلى لحظة خطأ مأساوي جديد في منطقتنا وإلى لحظة جديدة من تغييب العقل بتجاهل حقيقة أن مواجهة الإرهاب عسكريا فقط حتما ستفشل وأن الأولوية تظل للانتصار لحقوق المقهورين ولإنجاز تنمية مجتمعية متوازنة عمادها إقرار الحريات والشروع في تحولات ديمقراطية جادة. القدس العربي