من عجائب ومفارقات المشهد السياسي في المنطقة العربية، هو ذلك القاسم المشترك الذي يجمع بين نظم الحكم ورافضي النظم والمعارضين لها. فالطرفان يشتركان في التوجه نحو قبلة واحدة يتوجهون إليها، هي الخارج (الغرب وأمريكا تحديدا). وهذا يقود إلى معادلة صعبة نتائجها تتعلق مباشرة باستقلال الدول ومصالح شعوبها. المستبدون في المنطقة يعولون دائما في بقائهم على دعم الخارج عبر تحقيق مصالحه، خاصة بعد أن فقدوا الظهير الشعبي في الداخل. ومن ناحية أخرى، فإن رافضي الاستبداد ومعارضيه يعولون على الخارج أيضا لإزاحة الاستبداد، بعد أن تراجعت القدرة على الحراك ومواجهة الاستبداد في الداخل. وما بين المستبدين والرافضين للاستبداد يقف الخارج (القوى الكبرى والغرب وأمريكا) ولا يعنيه إلا تحقيق مصالحه فقط؛ فيزداد المستبدون تبعية وانبطاحا وتفريطا للحفاظ على بقائهم، ويتحول الرافضون للاستبداد أداة ضغط في يد الخارج؛ يساوم بها المستبدين لتحقيق المزيد من مصالحه على حساب الشعوب والأوطان، ومن ثم يصبح الوضع المثالي للقوى الكبرى (الغرب وأمريكا تحديدا) الحفاظ على تلك الوضعية، وأن تظل قبلة للطرفين (طرف مستبد يحقق مصالح الخارج وطرف رافض أو معارض لن يكون أبدا سوى أداة في يد الخارج يخوف بها المستبدين)، وإن احتدم الأمر فإن الخارج (أمريكا تحديدا) لن يترك دعم المستبد إلا ليدعم مستبدا جديدا يحقق مصالحه. ..فهم الحالة في المنطقة إزاء التوجه للخارج إن حالة التوجه نحو الخارج والاعتماد عليه قبلة لطرفي الصراع السياسي في المشهد العربي، ولتي تمثل قاسما مشتركا بين المستبدين والرافضين للاستبداد في المنطقة؛ هي في حقيقة الأمر نتاج الاستعمار الجديد، الذي خلق حالة من التبعية والهيمنة المعنوية (الاستعمار المعنوي) اللتين تعاني منهما المنطقة العربية، ولا سيما النخبة السياسية، سواء كانوا حكاما أو معارضين. فالجميع لديه القناعة بضرورة التعاون مع الخارج، لا سيما أمريكا التي يرون أنها تملك مفاتيح الحلول في المنطقة. تتعامل القوى الكبرى مع المنطقة من منطلق قائم على مخطط استعماري، اعتمد على سحق الإرادة الذاتية لدول المنطقة عموما، ومنعها من التماسك سواء على المستوى الداخلي للدول، أو على مستوى دول المنطقة فيما بينها. فعلى مستوى الداخل، يسعى المخطط الاستعماري إلى خلق الفرقة بين القيادات والشعوب، وخلق العزلة وفرضها على العلاقات بين دول المنطقة وبعضها مع بعض. ولعل واقع المنطقة العربية الآن يعكس هذه الحالة بوضوح، خاصة في ظل الصعود للكيان الصهيوني (إسرائيل). وهذه الهرولة العربية نحو ما يسمى التطبيع مع إسرائيل والنموذج المصري والخليجي يعكسان ذلك بوضوح أكبر. ..إذا ما هو الحل؟ – إن الحل يكمن في العمل على الانفكاك من التبعية، وبالاعتماد على الذات في الداخل وإيقاظ الوعي والركون بعد الله على إرادة الشعوب. ولا بد أن يكون معلوما أنه لا يمكن أن تتحقق إزاحة للاستبداد والطغيان وتغيير للأفضل دون الانفكاك من أوحال التبعية للخارج، ولن يكون ذلك دون ثمن. – لا بد أن تدرك أطراف المشهد السياسي العربي، ومن ورائها شعوب المنطقة، أن أمريكا تحديدا ومعها قوى أخرى تريد المنطقة كتلة واحدة في مواجهة الهوية الإسلامية لشعوب المنطقة، وتريد حماية ثروات المنطقة لمصلحتها. – على نظم الحكم أن تدرك قبل فوات الأوان أن قوتها لن تتأتى من الخارج، أو من قدرتها على الاستحواذ على السلطة وعزل الشعب والقوى السياسية الأخرى عن الحكم وصنع القرار؛ ولكن قوتها تكمن في مشاركة الشعوب وبناء وتفعيل دور المؤسسات في الحكم وصناعة القرار، لأن الاستمرار دون تحقيق ذلك يعني الاستمرار على النظام السياسي نفسه الذي يحكم المنطقة منذ زمن ولم يحقق نجاحا لدول المنطقة، وهو نظام لم تصنعه الشعوب العربية، ولم يؤسس على فكرة جامعة يلتفون حولها، ولكنه نظام يحكم المنطقة منذ خروج الاحتلال المباشر ويمثل امتدادا له. – وفي ظل عالم تغير كثيرا، فإن على نظم الحكم المعولة على الخارج أن تدرك مقدار ضعفها، وأنها باتت فاقدة لعوامل استمراريتها بعد فشلها في تحقيق مطالب وطموحات الشعوب. ورغم قدرة هذه النظم على القمع، فإنها باتت عاجزة عن تحقيق نجاحات في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم فإن الإصلاح السياسي والاعتماد على الداخل والعمل وفقا لمصالح ومتطلبات الشعوب، هو السبيل لتحقيق الاستقرار والحفاظ على النظم وحماية الدول من السقوط. من ناحية أخرى، فإن على رافضي الاستبداد ومعارضي النظم أن يدركوا الآتي: – أن النظم العربية كلما زاد الخلاف معها وبينها، دفعها ذلك لاسترضاء الخارج على حساب مصالح الشعوب وثرواتها، وهذا يضعف المجتمعات العربية ويطيح بقضاياها المركزية. – أن دول المنطقة باتت تتنافس فيما بينها على إرضاء الدول الكبرى خاصة أمريكا، وهذا يحكم الصراع بين هذه الدول بعضها مع بعض، ومن ثم فإن قوى المعارضة لا بد أن تضع في حسبانها أن الموضوع الحاكم لسلوك دول المنطقة في سياساتها الخارجية، هو بقاء النظام الحاكم وخوفه من الجميع، وهذا ما تستغله القوى الكبرى. – أن الخارج والقوى الكبرى لا يمكن أن يقدموا دعما دون ثمن، وسواء دعموا النظم الحاكمة أو ظُن أنهم داعمون لرافضي هذه النظم أو معارضيها، فإن كلا من المدعومين لا بد أن يدفع الثمن، ودائما ما يكون الثمن على حساب مصالح الشعوب الأوطان. وما بين مآلات أثمان ركون النظم إلى الخارج والثمن الذي يستوجبه التغيير بالاعتماد على الداخل، هناك نتيجة لمعادلة صعبة تتمثل في الاستقلال وإنهاء التبعية والحفاظ على ثوابت ومصالح الشعوب والأوطان، التي هي المحك والمحدد للمسار، ولن تتحقق جزما إلا عبر الركون إلى الداخل بأدواته المتاحة وتدرجاته في التعامل مع المشهد القائم. موقع عربي 21