ما حكم أخذ إجازة في تعلم القرآن والقراءات كما يحدث الآن، وهل هناك دليل من السنة على ذلك، هذا أولا ، أما ثانياً: عادة يقومون بختم القرآن يوم الجمعة و يبدؤون من سورة الضحى إلى أول خمس آيات من سورة البقرة، ويقوم الشخص الذي يختم بالدعاء لنفسه وللحاضرين أحياناً ما حكم ذلك؟ وهل ترفع الأيدي عند الدعاء؟ وهم يستدلون أن أحد الصحابة أو التابعين كان يجمع أهله عند ختم القرآن ثم يقوم بالدعاء، أفتوني بارك الله فيكم؟ الإجابة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فحفظ القرآن وتعليمه فرض كفاية على المسلمين، وهكذا هو الحكم في ما لا يمكن الاستغناء عنه من أسباب حصول ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والإجازة إن كانت عن طريق القراءة على الشيخ فهي طريقة معتبرة لتحمل القرآن إجماعا، وأما إن كانت بواسطة سماع تلاوة الشيخ، فالصحيح أنها ليست معتبرة. قال السيوطي في (الإتقان): حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة، صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما. قال الجويني: والمعنى فيه ألا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف فإن قام بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقين وإلا أثم الكل. وتعليمه أيضا فرض كفاية، وهو من أفضل القرب ففي الصحيح: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. وأوجه التحمل عند أهل الحديث: السماع من لفظ الشيخ، والقراءة عليه، والسماع عليه بقراءة غيره، والمناولة، والإجازة، والمكاتبة، والوصية، والإعلام، والوجادة، فأما غير الأولين فلا يأتي هنا لما يعلم مما سنذكره. وأما القراءة على الشيخ فهي المستعملة سلفا وخلفا، وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما أخذوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. لكن لم يأخذ به أحد من القراء والمنع فيه ظاهر؛ لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته، بخلاف الحديث فإن المقصود فيه المعنى أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل بلغتهم. ذكر السيوطي ذلك في فصل كيفية تحمل القرآن، وذكر في آخر هذا الفصل جملة من الفوائد، أولها قوله: ادعى ابن خير الإجماع على أنه ليس لأحد أن ينقل حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يكن له به رواية ولو بالإجازة. فهل يكون حكم القرآن كذلك، فليس لأحد أن ينقل آية أو يقرأها ما لم يقرأها على شيخ ؟ لم أر في ذلك نقلا، ولذلك وجه من حيث إن الاحتياط في أداء ألفاظ القرآن أشد منه في ألفاظ الحديث. ولعدم اشتراطه فيه وجه من حيث أن اشتراط ذلك في الحديث وإنما هو لخوف أن يدخل في الحديث ما ليس منه أو يتقول على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، والقرآن محفوظ متلقى متداول ميسر، وهذا هو الظاهر. فائدة ثانية: الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدي للإقراء والإفادة، فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يجزه أحد، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح، وكذلك في كل علم وفي الإقراء والإفتاء .. وإنما اصطلح الناس على الإجازة لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالبا من يريد الأخذ عنه من المبتدئين ونحوهم لقصور مقامهم عن ذلك، والبحث عن الأهلية قبل الأخذ شرط، فجعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمجاز بالأهلية. هذا من حيث معنى الإجازة وغايتها وحكمها، وأما طريقة ذلك فإن ما استحدث فيها مما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه رضي الله عنهم، أو لم يكن معروفا عندهم وقصد به فاعله التقرب إلى الله استحسانا فهو مردود على صاحبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. رواه مسلم. ولا نعلم لتحري الختم يوم الجمعة، ولا لكونه يبدأ من سورة الضحى في مجلس خاص، دليلا ثانيا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم. وأما افتتاح ختمة أخرى بعد ختم القرآن، فقد نص على استحبابه طائفة من أهل العلم، لما روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الحال المرتحل. قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل. وضعفه الألباني. قال ابن الأثير في (النهاية): هو الذي يختم القرآن بتلاوته ثم يفتتح التلاوة من أوله، شبهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحل فيه ثم يفتتح سيره: أي يبتدؤه. وكذلك قراء أهل مكة إذا ختموا القرآن بالتلاوة ابتدءوا وقرءوا الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة إلى (وأولئك هم المفلحون) ثم يقطعون القراءة ويسمون فاعل ذلك: الحال المرتحل، أي ختم القرآن وابتدأ بأوله ولم يفصل بينهما بزمان اه. وفي ذلك قال الشاطبي: وَفِيهِ عَنِ الْمَكينَ تَكْبِيرُهُمْ مَعَ * الْخَوَاتِمِ قُرْبَ الْخَتْمِ يُرْوى مُسَلْسَلاَ. إِذا كَبَّروا في آخِرِ النَّاسِ أَرْدَفُوا * مَعَ الْحَمْدِ حَتَّى الْمُفْلِحونَ تَوَسَّلاَ. قال أبو شامة في (شرح الشاطبية): هذا الفعل من التكبير وقراءة الحمد إلى المفلحون مروي عن ابن كثير نفسه، مأخوذ به عن طريق البزي وقنبل .. قال أبو الفتح فارس بن أحمد: ولا نقول: إن هذا سنة، ولا أنه لا بد لمن ختم أن يفعله، فمن فعله فحسن جميل، ومن ترك فلا حرج. قال صاحب التيسير: وهذا يسمى الحال المرتحل، وفي جميع ما قدمناه أحاديث مشهورة يرويها العلماء يؤيد بعضها بعضا تدل على صحة ما فعله ابن كثير. قلت: لم يثبت شيء من ذلك، وأكثر ما في الأمر أن ابن كثير كان يفعله .. وقد قال أبو طالب صاحب أحمد بن حنبل: سألت أحمد: إذا قرأ (قل أعوذ برب الناس) يقرأ من البقرة شيئا؟ قال: لا يقرأ. فلم يستحب أن يصل ختمه بقراءة شيء، ولعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح يصير إليه. ذكره شيخنا أبو محمد بن قدامة في كتابه (المغني) وذكر أبو الحسن ابن غلبون وغيره رواية عن الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون إذا ختموا القرآن أن يقرءوا من أوله آيات. قلت: ولكل من المذهبين وجه ظاهر. اه. وأما الدعاء عند ختم القرآن وجمع الأهل والأحباب لذلك، فلا بأس به، وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، قال ابن قدامة في (المغني): يستحب أن يجمع أهله عند ختم القرآن وغيرهم لحضور الدعاء، قال أحمد: كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده. وروي ذلك عن ابن مسعود وغيره. ورواه ابن شاهين مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. اه.