تتعرّض النساء يوميا لشتى أنواع الظلم والاستغلال والاضطهاد، حتى في الدول المتقدمة، وهو ما يثير الاستغراب والاستهجان، إذ لم تتمكن أي دولة من القضاء على جميع أشكال استغلالهن واضطهادهن، بحسب تقارير عدة، كتقرير للأمم المتحدة صدر في نوفمبر الماضي، أفاد بتعرّض امرأة من كل ثلاث نساء في العالم للعنف الجنسي أو الجسدي خلال حياتهن. وتفيد مجلة مادموزيل الفرنسية باغتصاب امرأة كل سبع دقائق في فرنسا! بينما تذكر جمعيات فرنسية مدافعة عن حقوق النساء مقتل قرابة 136 امرأة في فرنسا العام الفائت، نتيجة العنف الممارس عليهن من الزوج أو الصديق. لم يرقَ التطور البشري المنجز بنا إلى مجتمعات تسودها قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع البشر، من دون أي اعتبارات ثانوية، كالجنس (الجندر) واللون والعرق والانتماء الديني والمذهبي والفكري، وهو ما تكشفه مئات الشواهد من عصرنا، لا سيما التي كشفتها حملة “أنا أيضا” المتعلقة بأشكال استغلال المرأة واضطهادها في أرقى المجتمعات والدول، من الولاياتالمتحدة الأميركية وليس انتهاء بالسويد. في حين يسهل تلمس ومشاهدة مظاهر ظلم واستغلال النساء في دولنا العربية، إلى درجة تنتفي معها حاجتنا لمتابعة تقارير توثق هذه الانتهاكات، لا سيما إن أخذنا بالاعتبار الصعوبات الاجتماعية والقانونية والسياسية التي يتعرّض لها معدّو هذه الدراسات القيمة عموما، والتي تجعل من الأرقام والإحصاءات الواردة فيها أدنى بكثير من حقيقة الوضع العربي، فمن زواج القاصرات، إلى الزواج التعسفي من دون موافقة الزوجة، مرورا بالعنف الجسدي الذي يمارسه الأب أو الأخ أو الزوج، إلى تعنيف المرأة واضطهادها بقوة القانون؛ لا سيما في حالات الطلاق التي تضع النساء بين ناري القبول بسوء معاملة الزوج أو التخلي عن أطفالها؛ ومظاهر عديدة نلمسها يوميا من دون أن نتكلف عناء البحث عنها، والتي طاولت بدورها الفضاء الإلكتروني. من ناحية أخرى، تمكن بعضهم من استثمار الفضاء الإلكتروني، من أجل تسليط الضوء على قضية تعنيف امرأة محدّدة، وتحويلها إلى قضية شأن عام، ما فرض ضغوطا على السلطات، وأجبرها على التعمق في التحقيق، وكشف ملابسات القضية، والبدء بمحاسبة الجناة من ذويها غالبا، وهي ظاهرة جديدة على مجتمعنا، تعكس تغييرا جوهريا “ولو محدودا” في وعي المجتمع؛ أو ربما في تعاطيه؛ مع المسائل الحقوقية، النسوية وغيرها. وهي في الحقيقة انعكاس مباشر لمظاهر الصراع السياسي الذي تشهده المنطقة العربية منذ نهايات العام 2010، أي الثورات العربية التي تعبر، في جوهرها، عن صراع حقوقي، يدور حول عدم شرعية السلطات الحاكمة، وحق الشعوب في الحكم والاختيار، بل والحياة. وهو ما فتح الباب أمام تحوّل بعض قضايا المرأة العربية من قضايا نسوية بحتة إلى قضايا وطنية واجتماعية حقوقية تعني المجتمع بأكمله، كما حدث في قضية إسراء غريب. من دون إغفال مئات قضايا التعنيف المشابهة داخل وخارج فلسطين التي افتقدت الدعم الاجتماعي نفسه، ما جعلها طي النسيان وحبيسة الأدراج، من دون أن تفضي إلى محاسبة القتلة أو المجرمين بحق المرأة، مهما بلغت وحشية الجريمة المرتكبة، وهو تعبيرٌ عن مدى ثانوية القضايا الحقوقية في ظل الأنظمة الحاكمة، وخصوصا النسوية منها. يجعلنا هذا الأمر نعتقد أن إحدى أهم الأزمات التي نعيشها اليوم، وتدفع النساء ثمنها الأكبر، هي أزمة تغييب السلطات الحقوق، سواء اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية، إذ تقوض السلطات حقوق المجتمع وتسلبها، بما فيها حقوق النساء، ما ينعكس اجتماعيا من خلال تقويض المجتمع ذاته حقوق مكوناته الأضعف، كالفقراء والأطفال والمرأة تحديدا، من دون أن يعني ذلك تبرئة المجتمع، إذ لا يمكن إنكار دور المجتمع والوعي العربي الشعبي السلبي تجاه المرأة وحقوقها، بل ومساهمته في اضطهادها بشتى الأشكال والألوان، ولكن المسؤولية الكبرى في ذلك تتمثل في مسؤولية النظام السياسي الحاكم، النظام الذي عمل على سحق الوعي الحقوقي لدى أبنائه واستبدله بوعي تسلطي، أي بقانون الغاب الذي يسوده ويحكمه الأقوى. لذا شرّعت السلطات العربية للأجهزة الأمنية إنهاء حياة أي مواطن من دون ذكر أي سبب، فهي تعتقل من تشاء من مواطنيها وتعذبهم وتقتلهم بشكل عبثي غالبا، كما تنتزع أي ملكية فردية، مهما كانت، لصالح هذا المسؤول أو ذاك، وتضع حاشيتها في الوظائف والمواقع التي تريد، من دون أي اكتراث لأحقية أي مواطن بملكيته الخاصة أو بحقه في التعليم أو التوظيف، وتحوّل القضاء إلى مجرد وسيط لتشريع الانتهاكات الفردية والجماعية، أي لحماية المافيا الحاكمة والمتعاونين معها. وهكذا حتى نصل إلى سحق حقوق النسوة واضطهادهن من سلطة ذكورية عائلية ومجتمعية، تحظى بمكانة اجتماعية واقتصادية أقوى منهن، وفق معايير قانون الغاب الذي شرّعته وحمته ووطدته السلطات الاستبدادية والأمنية المسيطرة. لذا وفي ظروفنا العربية الرثّة، لا يصح فصل النضال النسوي عن نظيره السياسي والحقوقي، والعكس صحيح، أي لا يجوز فصل النضال السياسي والحقوقي عن النضال النسوي، لأن جذور اضطهاد المرأة العربية واستغلالها ترجع إلى سيادة دولة المحسوبيات والوساطات وسيطرتها. كما أن القبول بتشريع اضطهاد النساء واستغلالهن يمثل أحد مداخل اضطهاد المجتمع واستغلاله، بكامل مكوناته أو جزء منها. وعليه، يستحيل علينا النجاح في انتزاع حقوق النساء العربيات، من دون هدم صرح الدولة البوليسية التي لا تكترث بحقوق مواطنيها، رجالا ونساء وأطفالا. وهو ما لا يعفي المجتمع من مسؤوليته، بقدر ما يصوّب حراكنا تجاه الهدف الرئيسي، ويوحد اتجاهنا نحو بناء دولة القانون والعدالة والمساواة بين جميع أبنائها، دولة نستطيع في ظلها مواجهة أي انحراف حقوقي، مهما صغر أو كبر، تجاه المرأة، كما تجاه الطفل وسائر مكونات المجتمع. فسيادة القانون ونشر الوعي الحقوقي لجميع مكونات المجتمع هما اللبنة الأولى في صراعنا من أجل مجتمعٍ لا تسوده قيم عفنة، تنتهك حقوق النساء يوميا كما يحدث اليوم، فالمرأة قضية جامعة، وانعكاس مباشر لصراع طويل مع السلطة الأمنية الحاكمة، تزامنا مع صراعنا مع ذكورية اجتماعية بغيضة، لأن الاستبداد السياسي هو حامي الذكورية الاجتماعية وراعيها وداعمها، ما يجعل من القضاء عليه شرطا لازما للقضاء على جميع أشكال اضطهاد المرأة وظلمها واستغلالها. العربي الجديد