الديمقراطية نظام سياسي قديم جداً برز قبل المسيحية والاسلام واثار على نحو مبكر الاشكالية الجوهرية التي ما تزال تؤرقنا في تجاربنا المشرقية للديمقراطية بخصوص علاقة الوعي الفردي بممارسة الفرد للديموقراطية. هل يحق لمن يسميهم الكثيرون، صواباً او خطأً، ب”الجهلة” ان يشاركوا في الانتخابات وتقرير المصير العام للمجتمع، حتى وإن أدت خياراتهم الانتخابية الخطأ الى الإضرار بالمجتمع؟ هل الديمقراطية حق للجميع، واعين أو جهلة، ام أنها امتياز للواعين فقط؟ وكيف يمكن تحديد الخط الفاصل بين الوعي والجهل؟. هذه الأسئلة وسواها واجهت أقدم ديمقراطية لدينا معرفة تاريخية جيدة بخصوصها وهي ديمقراطية أثينا القديمة في خلال القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. بعض ما جعل اسئلة المعرفة والاستحقاق الديمقراطي للأفراد أكثر الحاحا في مجتمع أثينا القديمة هو طابع النظام الديمقراطي نفسه، إذ كانت ديمقراطية أثينا مباشرة وليست تمثيلية كمعظم ديمقراطيات عصرنا الحالي. الفارق بين الديمقراطية التمثيلية والمباشرة هو ان الأولى تقوم على انتخاب الجمهور الذي يحق له التصويت لممثلين عنه يتولون بإسمه تشريع القوانين واختيار الحكومة ومتابعة تنفيذ القوانين، أي ان الجمهور، في الديمقراطية التمثيلية، يفوض عبر الانتخاب الدوري مجموعة صغيرة من الساسة (هم أعضاء البرلمان عادة) كي تقوم بهذه المهام نيابة عنه. أما في الديمقراطية المباشرة، فلا يوجد تفويض انتخابي تُمنح عبره اقليةٌ سلطاتِ التشريع واتخاذ القرارات وتنفيذها (إلا في حالات محدودة جداً وطارئة كاوقات الحروب وغيرها من التحديات الاستثنائية التي تتطلب اتخاذ اجراءات سريعة) وانما يقوم المواطنون المخولون بالانتخاب بالتصويت مباشرةً على القوانين والقرارات والإجراءات المهمة. في ظل هذا النظام الأقرب للروح الحقيقية للديمقراطية والذي يُمارس جزئياً اليوم في مناطق كثيرة في العالم، يذهب المواطنون لصناديق الاقتراع بضع مرات في العام للتصويت على القضايا ذات الاهمية للمجتمع. تتطلب الديمقراطية المباشرة لنجاحها قدراً كبيراً من الوعي من جانب الناخبين للتصويت الصائب على أساس معايير المصلحة العامة، بعكس الديمقراطية التمثيلية التي يُحال فيها عموماً تقدير المصلحة العامة إلى المُنتَخبين وليس الناخبين. بسبب هذا تزداد في الديمقراطية التمثيلية احتمالات فساد التصويت الانتخابي والتضليل السياسي من خلال شراء الأصوات واغراء الناخبين الاقل وعياً والاكثر حاجةً بانتخاب الأشخاص الخطأ خلافاً للمصلحة العامة. يحدث فساد التصويت هذا بسبب اعتماد الديمقراطية التمثيلية على التفويض الانتخابي لأقلية من الاشخاص كي يمثلوا المجتمع بدلاً من التصويت على القوانين والقرارات من دون وساطة الممثلين الانتخابيين كما في حال الديمقراطية المباشرة. كان جواب مجتمع أثينا السياسي على سؤال الوعي الفردي لحماية النظام الديمقراطي المباشر ذا شقين: طبقي ومعرفي. طبقياً، واتساقاً مع القيم التراتبية السائدة في المجتمعات القديمة، سُمح لعدد محدود نسبياً من الناس بالتصويت من الذين كان يُعتقد أنهم بسبب موقعهم الطبقي في المجتمع سيكونون اكثراً حرصاً على الحفاظ على الأمن والنظام فيه. في سياق أثينا القديمة، عنى هذا تصويت “المواطنين المتساوين” الذين شملوا الذكور من أعضاء الطبقة الارستقراطية المالكة للموارد، وتالياً، طبقة المحاربين المدافعة عن المدينة. عملياً، كان هؤلاء يشكلون نحو ربع الى ثلث سكان المدينة بعد استثناء النساء والعبيد والمقيمين الغرباء والطبقات الفقيرة من المجتمع التي كان يُعتقد أنها غير مؤهلة لا مصلحياً ولا معرفياً للمشاركة في النظام الديمقراطي والدفاع عنه. معرفياً، تَمَثلَ الجواب باهمية التأهيل الثقافي ل”المواطنين المتساوين” للمشاركة في النظام الديمقراطي، فالمصلحة الطبقية في النظام لم تكن تعتبر كافيةً لوحدها من دون تأهيل ثقافي مناسب للعب أي دور في هذا النظام. قام هذا التأهيل الثقافي على تلقي هؤلاء المواطنين المتساوين دروساً في قواعد اللغة والمنطق والخطابة كي يستطيعوا المساهمة فاعلية في الحياة الديمقراطية للمدينة. استندت اهمية تعلم هذه المواد الثلاث على افتراض علاقة مباشرة بين المهارات الديمقراطية اللازمة والقدرات الثقافية لممارسي هذه الديمقراطية. فتعلم قواعد اللغة الإغريقية يساعد المواطن على الكتابة والنطق بلغة سليمة، وارتبط تعلم المنطق بالقدرة على تفحص الأفكار والتمييز بينها وتقييم علاقتها بالمصلحة العامة، فيما تكمن اهمية تعلم الخطابة بالقدرة على إلقاء الخطب أمام جمهور المواطنين بغية التأثير فيه وإقناعه بصحة فكرة ما إزاء اخرى قبل التصويت عليها. تالياً، أضاف الرومان لهذه المواد الثلاث اربع مواد اخرى: الموسيقى والفلك والهندسة والرياضيات، لتصبح هذه السبعة ما عرف بالعلوم الحرة (Liberal Arts)، أي العلوم التي يصنع تعلمها عقلاً او شخصاً حراً، التي شكلت فيما بعد الأساس المعرفي للنظام الجامعي الغربي الحديث. على هذا النحو، كانت المشاركة الديمقراطية امتيازاً لاقلية كبيرة نسبياً، محظوظة طبقياً وثقافياً وليس حقاً متاحاً للجميع في المجتمع. وحتى مع بروز الحداثة في القرن الثامن عشر عبر ما سمي بعصر التنوير الأوروبي وشيوع مفاهيم الحريات العامة والحقوق الطبيعية التي تفترض مساواة الجميع كبشراولاً وكمواطنين ثانياً، بقيت الديمقراطية امتيازاً للأقلية، ناخبين ومُنتخبين، حتى مع اعتماد النظام الديمقراطي التمثيلي بدلاً من المباشر. فحتى آباء الديمقراطية الحديثون كانوا يتخوفون من منح حق التصويت ل”الدهماء” و”الجهلة” الذين عبر اكثريتهم الكاسحة، لو منحوا حق التصويت، يستطيعون بسهولة عبر تصويتهم “الجاهل” لصالح المرشحين الخطأ تقويضَ نظام الدولة والأمن في المجتمع والاطاحة بالديمقراطية نفسها. ولذلك استمرت بعض الاشتراطات الطبقية والثقافية في منح حق التصويت في الديمقراطيات الغربية منذ القرن الثامن عشر فصعوداً، إلى أن جرى التخلص تدريجياً من هذه الاشتراطات مع انتشار الوعي عبر التعليم وبروز حركات المساواة الحقوقية على المستوى الشعبي (حركات حقوق المرأة والعمال والملونين وسواها) لتتكسر في القرن العشرين آخر المصدات المؤسساتية والقانونية أمام اشتراك جميع المواطنين بالتساوي في التجربة الديمقراطية في المجتمع. وفي ظل الاتساع السكاني وتعقيد الحياة المعاصرة، بضمنها التشعب الكثيف في وظائف الدولة، أصبحت الديمقراطية التمثيلية هي النموذج العملي والاسهل لادارة الدولة عالمياً، مقابل ازدياد المصدات القانونية والمؤسساتية والثقافية لمنع فساد التصويت أو تخفيف حدته على الأقل. عراقياً، جاءت الديمقراطية مفاجئةً وفوقية وخارجية، وليست نتاجاً لتجربة مجتمعية اصيلة. لكن ما ساهم بالقبول العراقي الواسع بها حينها، غالباً من دون فهم مضامينها وافتراضاتها الحقيقية، هو شدة الاستبداد و خسائره الفادحة شعبياً واقتصاديا وانسانياً، على مدى عقود الحكم البعثي، إذ قدمت الديمقراطية على أنها النقيض الأوتوماتيكي للاستبداد، واختصرت خطأً بفعل التصويت الانتخابي للجمهور. لكن تجربة السنوات التالية على امتداد بضع دورات انتخابية شارك فيها العراقيون دفعت الكثيرين الى اثارة اسئلة الوعي والمعرفة وأهميتها في صناعة تجربة ديمقراطية رصينة لتجاوز الفشل الكبير في تجربة الدولة ما بعد 2003. لا تختلف كثيراً هذه الاسئلة العراقية في جدواها العميقة عن اسئلة أثينا القديمة وعصر الحداثة في القرن الثامن عشر، لكن اجوبتها تحتاج أن تكون مختلفة، فتطوير التجربة الديمقراطية العراقية الهشة لا يكون عبر الوصاية الاخلاقية والثقافية على الجمهور، بما تنطوي عليه من لوم جمعي هو أقرب لجلد الذات من كونه مراجعة واعية للأخطاء، واتهامات عامة بالجهل ودعاوى اللاجدوى من الديمقراطية. هذه الوصاية لا تُصحح الاخطاء، بل تقلل من احتمالات مشاركة المجتمع في كامل العملية الديمقراطية بمراحلها المختلفة وتساعد على اختصارها الموسمي الخطير بمرحلة التصويت الانتخابي فقط كما هو سائد عراقياً لسوء الحظ. ما يزال الدرب الديمقراطي العراقي طويلاً، لكن المضي فيه الى آخره بنجاح يتطلب ترسيخاً اجتماعياً ودراسياً واعلامياً للمضامين الأوسع للديمقراطية بوصفهاً مراناً مستمراً على التداول الحر للأفكار والاختلاف بشأنها وتمظهر هذا الاختلاف بخيارات انتخابية مختلفة. سكاي نيوز