فتحت جائحة كورونا أبواباً كثيرة للأسئلة حول آثارها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على العالم، التي كان من بينها إحساس دول أوروبية بحاجتها لمزيد من السكان لمواجهة مثل هذه الجوائح، وللاستمرار كرقم اقتصادي مهم على الساحة العالمية. في الوقت الذي فقدت فيه القارة الكثير من الأرواح، خلال الأزمة، كان يبرز تساؤل حول ما إذا كان ذلك سيؤثر في سياسات الهجرة الأوروبية. الإجابة عن سؤال احتياج أوروبا لمزيد من المهاجرين ليست معقدة، فلغة الأرقام والاحصائيات تؤكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن القارة صارت عجوزاً فعلاً مع اتجاه معدلاتها السكانية بنسب أكبر نحو الكهولة، ورغم أن النسب تظل متفاوتة بين دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن المتوسط العام يشير إلى مجتمعات هرمة في غالبها، ما يعني أنها مجتمعات سوف تكون بنسبة كبيرة غير قادرة على الإنتاج، ومعتمدة على الدعم الاجتماعي وتلقي معاشات نهاية الخدمة. هذه الاحتياج الأوروبي لمزيد من الناس، لا علاقة لها مباشرة بجائحة كورونا الآنية، بل إننا نجد أن الهاجس السكاني ظل على الدوام موجوداً في السياسات الأوروبية، التي كانت منذ عقود داعمة للمرأة العاملة بما يوفر لها ولمواليدها أشكالاً كثيرة من الرعاية والتشجيع المالي والاجتماعي. إذا كانت هذه هي الحال، فهل يعني ذلك أن المعاناة وركوب البحر بحثاً عن مرسى أوروبي سوف ينحسرا قريباً ليصبحا شيئاً من الماضي؟ الإجابة هنا قد تكون محبطة، فأغلب الظن أن أبواب أوروبا الشرعية ستظل صعبة الولوج أمام معظم الطارقين عليها، في حين ستظل المخاطرة عبر عبور الأمواج والمرور بحالات مختلفة للاستغلال السبيل الوحيد، أمام من يحلمون بالهرب من واقعهم. المآسي الإنسانية والموت المجاني سيستمران للأسف طالما بقي الوضع في بلاد القدوم على بؤسه. إن محاولة عبور البحر المتوسط، بواسطة قارب مكتظ وغير مهيأ، تبدو أشبه بمحاولة الانتحار. المغامرون يدركون هذه الحقيقة جيداَ، لكن، وكما تلخص بشكل حكيم الكاتبة البريطانية من أصل صومالي وارسان شير، فإن أحداً لن يضع أبناءه في قارب، إلا إذا ما كان مقتنعاً بأن البحر سيكون أكثر أماناً لهم من اليابسة. بيد أنه إذا كانت القارة العجوز تحتاج فعلاً لعشرات الآلاف من الشباب والأسر الجديدة، لإعادة الحيوية لمجتمعاتها، وإذا كان هؤلاء الشباب متوفرين ومستعدين للمشاركة في بناء هذه المجتمعات، باستخدام كل ما يملكون من خبرة ومكتسبات، فلماذا لا يفتح الباب بشكل مدروس بحيث يربح الجميع وفق معادلة متكافئة؟ للأسف فإن العالم لا ينظر للأمور بهذا الشكل البسيط والحالم، وللتدليل على ذلك يمكن النظر إلى ما يحدث في مزارع الخضر والفاكهة الإيطالية. إيطاليا مثال جيد لأنها من الدول التي يصلها المهاجرون بنسب أكبر، بسبب قربها من السواحل الافريقية. صحيح أن أعداداً كبيرة من هؤلاء القادمين، ينجحون في تجاوزها والمرور إلى دول أوروبية يعتبرون أنها قد تكون أكثر ترحيباً بهم، إلا أن الآلاف يظلون عالقين داخل حدودها بشكل دائم أو مؤقت، بانتظار فرصة للخروج أو لتوفيق الأوضاع. الذي يحدث هو أن أصحاب المزارع والأعمال الصغيرة يتلقفون هؤلاء العالقين عارضين عليهم فرص عمل وتوفير مأوى. الأمر يبدو لأول وهلة جيداً، لكن أولئك سرعان ما سيكتشفون أنهم وقعوا ضحية استغلال بشع. السكن الذي سيتوفر لهؤلاء سيكون في غالبه أكثر سوءاً من المساكن البائسة التي تغلّف حدود المدن الافريقية، أما الأجر فسيكون أقل من ثلث الأجر الذي يتقاضاه العمال العاديون في أعمال مشابهة، إضافة إلى أن ذلك الأجر سيكون بلا مسؤولية على رب العمل، فلا تأمين صحي أو اجتماعي ولا تعويض في حالة الضرر أو الإصابة. باختصار سيكون ذلك العامل بلا وجود حقيقي، وحتى إذا مات من فرط العمل والجهد، فإن رب العمل بإمكانه أن ينكر مسؤوليته ببساطة، فذلك العامل الذي يعيش بلا أوراق هوية هو في الواقع غير موجود. في السابع من إبريل الماضي وتذرعاً بالوضع الصحي العام، أعلنت إيطاليا تنكرها الصريح لكل اتفاقيات حقوق الإنسان، التي كانت تجبرها على استقبال المهاجرين الواصلين إليها عبر البحر، حيث أعلنت أنها لن توفر الحماية لأحد، وأن على أي مخاطر جديد قبل أن يخوض غمار البحر، أن يعلم أن الأراضي الإيطالية لن تكون آمنة بالنسبة له. حتى الآن لا نمتلك تقييماً متكاملاً حول تأثير ذلك الإعلان الإيطالي والذي تلاه إعلان آخر مشابه من الحكومة المالطية، على حركة المهاجرين غير الشرعيين. في الغالب فإن مثل هذا الإعلانات لن تكون مفيدة، إلا على سبيل زيادة مساحة الاستغلال المرتبطة بزيادة معدلات الخطورة، وكما تواصلت عمليات التهريب بين الدول الافريقية عبر الحدود، رغم إغلاقها الرسمي بسبب فيروس كورونا نتوقع استمرار التهريب عبر البحر، أو كما لخص عنوان تقرير أخير لموقع «أكتيف يوروب»: «بوجود فيروس كورونا أو بعدمه سيواصل المهاجرون الاندفاع إلى أوروبا». القوانين الأوروبية تبدو رادعة في ما يتعلق بحقوق العمال ومراعاة الحد الأقصى لساعات العمل، وتوفير التأمين المناسب، كما أنها تعتبر العمل في ظروف مهينة نوعاً من أشكال العبودية، لكن الواقع هو أن ما يعرف بالعمل الأسود، أي العمل غير الرسمي، هو أيضاً رائج، وإن كنا ضربنا مثلاً بالحالة الإيطالية التي لفت إليها كثير من تقارير حقوق الإنسان وغيرها من الدراسات وبرامج التلفزيون، إلا أن ذلك حاصل بنسب متفاوتة في جميع الدول الأوروبية، التي يشترط فيها على المهاجر الحصول على إقامة من أجل التقدم إلى عمل بشكل رسمي، في حين يطلب منه أرباب العمل تقديم هذه الإقامة قبل كل شيء ليتم الاعتراف به، وفي ظل هذه الحلقة المفرغة التي تذكرنا بالدائرة الجدلية للبيضة والدجاجة، سوف لن يجد أغلب المهاجرين أمامهم إلا سوق العمل الأسود، الذي سيسلب منهم حقوقهم التي على رأسها حق الاعتراف الأدبي بهم كمساهمين إيجابيين ضمن عجلة الاقتصاد. يملك الاتحاد الأوروبي أكثر وسائل العالم تقدماً لمراقبة الحدود البحرية، لكن ما يحدث في كثير من الأحيان هو أن يكتفي أولئك المراقبون بعد المراكب التي تغرق أو التي تحتاج للمساعدة، بدون أن يحركوا حيالها ساكناً بسبب أن لا دولة أوروبية مستعدة لتحمل مسؤولية ركابها. في حالات أخرى تلجأ بعض السلطات لإنقاذ العالقين في البحر، لكن مع إعادتهم إلى شواطئهم التي أتوا منها وهو ما يخالف بشكل واضح القوانين الإنسانية التي تحظر الإرجاع القسري. الخلاصة هي إن أوروبا تحتاج لمزارعين وعمال من أجل التقاط الثمر وتعبئته، كما تحتاج لأعداد غير محدودة من المشتغلين في مختلف المجالات، لكن طالما كان السوق مزدحماً بمن يقبلون العمل بلا شروط وبأقل أجر ممكن، فإن الأمر سيبقى على حاله. الأرجح أن تواصل أوروبا «تعاونها» مع دول الجنوب من أجل تقليل أعداد المغامرين، أما من ينجح في الوصول فعلاً، وفي توفيق أوضاعه بعد أعوام من المعاناة والعمل شبه المجاني، فسوف يستفاد منه لتعويض النقص السكاني، في حين ستواصل النخب اليمينية التمنن عليه، وهي تجتر سرديتها غير الواقعية عن الأجانب الذي يأخذون الوظائف ويتسببون في ارتفاع نسب البطالة. القدس العربي