سنواتٌ طويلةٌ وخشنة بل وقاسية هي سنوات الأسر فما بين انتكاسة وصدمة وخيبة أمل يصبح الأسير عاجزاً عن التفكير بما يعتبر من ضروريات الحياة الإنسانية غير أن المعجزة الفلسطينية تهزم المستحيل في كل مرة وعندما يصبح المستحيل عادياً في حياتنا تصبح البطولة والفداء جزء صغير من الذات المتمردة التي تأبى الانقياد والانصياع لشروط سجانها حتى أنه يقف عاجزاً في كثير من الأحيان أمام حالات يصعب وصفها بأنها من أفعال البشر فما يحدث داخل هذه الأقبية المظلمة يتناقض كلياً مع أصول العيش الآدمي فأن يزج بك داخل زنزانة ضيقة معتمة فاقدة لأدنى الشروط الحياتية والإنسانية وتدهمك المصائب من كل حدبٍ وصوب ويتم استهداف جسدك من خلال الإهمال الطبي الذي يهدف لهدم أعضائك الداخلية والخارجية ليلحق بها تدمير روحك التي لم تعتد أبداً طلب المساعدة والعون من أحد كل هذا ولا تتوقف مصائب الدهر في ملاحقتك فأن تحرم زيارة والديك وإخوتك وأعز أقربائك حتى يصلك الخبر الصادم بوفاة أحدهم أو مرضه وكأن هناك من يلاحقك حتى تشعر بأن هناك من يتآمر عليك حتى تخر قواك وتنهدم عزيمتك وتصبح غير قادر على إزالة هذه الأثقال المتراكمة على أكتافك وفي خضم هذه الأجواء المقفهرة تتفجر القوى الخارقة اللابشرية والتي لا مكان لها في نواميس الأحوال الإنسانية، تظهر صلابة العرق الجبار أحفاد العماليق وورثة الكنعانيين تتفتح المعجزات في حدائق الزنازين التي لا تشبه حدائق العالم بشيء سوى من هؤلاء القلة الباقية على قمة الجبل حاملة اللواء محطمة المعجزات مبتكرة كل يوم أسلوب جديد للحياة فما بين الأدب وزراعة الأمل من خلال تهريب النطف وإنجاب الأطفال هناك مساحة عريضة من حب الحياة والانتصار على القيود وهزيمة السجان بطرائق لا تخطر على بال أحد من البشر، هنا داخل السجون تصبح أدوات الانتصار على الحياة طيعة لينة وكأن الإصرار على الحياة يتحالف مع البطولة في لحظة من الزمن لتخلق من هذا الإنسان حكاية أخرى لا علاقة لها بما تعارفت عليه حضارات الكون المختلفة وهذا هو ما نسميه في العرف الفلسطيني بالأسر أو الاعتقال أو الساحة المتقدمة من النضال لشعب يحفر بالصخر ليسمع العالم أجمع