يطلق علماء البيئة وناشطوها على غابات الأمازون المطرية في البرازيل صفة "رئتي العالم" اللتين يتنفس بهما، باعتبارها أكبر مصدر للأوكسجين وخزين للكاربون على وجه الكرة الأرضية. لكن هاتين الرئتين تنكمشان وتتسببان في اختناق البشرية بسبب سياسة حكومة البرازيل باستغلال أراضي الغابات في الزراعة والتعدين، في مخالفة فاقعة للاتفاقيات الدولية ووعود البرازيل في مؤتمرات المناخ الدولية بعدم المساس بهذه الثروة البيئية التي تهم العالم أجمع. الرئيس البرازيلي، جايير بولسونارو، الذي يدعمه المزارعون والصناعيون، يسمح، بل يشجع، التوسع في استغلال مساحات الغابات من أجل التنمية الزراعية والصناعية، وتشير التقارير والتحقيقات إلى أن غابات الأمازون تتناقص بمعدل مساحة ملعب لكرة القدم في كل دقيقة! وأن سرعة الانكماش في مساحة غابات الأمازون قد بلغت مستوى خطيرا لم تبلغه منذ 13 عاما، الأمر الذي أصاب كثيرين بالفزع من المستقبل الغامض الذي ينتظر البشرية. واستنادا إلى علماء المناخ، فإن الأشجار تخزن الكاربون في جذاعها وأوراقها، وفي غياب الأشجار، فإن الكاربون ينطلق إلى الجو محدثا ارتفاعا في درجات الحرارة، وكلما انحسر وجود الأشجار على الأرض فإن الاحترار المناخي سوف يتسارع، الأمر الذي يتسبب في كوارث بيئة متعددة، منها موت أنواع عديدة من الحيوانات والنباتات وذوبان الثلوج وارتفاع مستويات المياه في البحار والمحيطات، وانتشار أنواع جديدة من الفيروسات والأمراض. الساسة البرازيليون، محافظين ولبراليين، رغم اختلاف سياساتهم وتوجهاتهم، يعملون على إحداث تنمية اقتصادية في بلدهم، ويرى اليمينيون منهم أن هذا يتطلب استغلال المساحات الشاسعة من الأراضي التي تغطيها الغابات حاليا، في الزراعة والتعدين من أجل تقليص الفقر المنتشر في البلاد. ورسالة البرازيليين العامة للعالم، رغم أنهم لا يتحدثون بها رسميا، هي أننا لا يمكننا أن نبقى فقراء، بينما شعوب العالم من حولنا ترفل بالثروة والحياة العصرية المرفهة، وإن أراد العالم أن يحمي البيئة ويمنع التغير المناخي والاحتباس الحراري، فيجب عليه أن يساهم في هذا الجهد، وألا يرمي بالمسؤولية على شعب البرازيل فقط، لأنها مسؤولية دولية، ويجب أن تتضافر الجهود في جميع دول العالم لتقديم الحلول لها. لكن عُشر الأشجار وأنواع الكائنات الحية في الكرة الأرضية موجود في غابات الأمازون المطرية، حسب تقديرات العلماء، لذلك أصبح الحفاظ على هذه الثروة البيئية والإيكولوجية مسؤولية بني البشر جميعا، وليس فقط حكومة البرازيل، التي تنظر هي الأخرى إلى مصالح سكانها الآنية، خصوصا وأن القوى السياسية في الدول الديمقراطية لا تنظر أبعد من موعد الانتخابات المقبلة، أي أن خططها دائما قصيرة الأمد. الرئيس بولسونارو، الذي يلقبه علماء وناشطو البيئة ب "عدو الأمازون"، خفَّض الإنفاق المخصص لدعم البيئة ومنع التجريف، ولم يدرج في موازنة البرازيل الأخيرة التخصيص المالي اللازم لمكافحة عمليات التجريف وحرق الأشجار، والاستيلاء على أراضي الغابات، الجارية على قدم وساق في غابات الأمازون، على الرغم من إطلاقه وعودا في قمة المناخ الأخيرة، التي عقدها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عبر الدائرة الألكترونية المغلقة، بمضاعفة الانفاق على البيئة وتقليص التجريف. لكن بولسونارو ينفي الاتهامات الموجهة له، ويقول إن البرازيل ضربت مثالا في المحافظة على البيئة، بل وعد في القمة الأخيرة التي عقدت الخميس الماضي، بأن بلده سوف يقلص الانبعاثات الكربونية إلى الصفر بحلول عام 2050. غير أن المبلغ المخصص لحماية البيئة في الموازنة البرازيلية التي أعلنت بعد يوم واحد من القمة المناخية، كان 380 مليون دولار فقط، وهو متدنٍ جدا، بل هو أقل بمقدار الثلث عن المبلغ الذي خصص في موازنة العام الماضي، والبالغ 570 مليون دولار. يبدو أن الرئيس بولسونارو يعول على الحصول على مساعدة مالية أمريكية مقابل الحفاظ على غابات الأمازون، لكن مثل هذه المساعدة غير مقرة حتى الآن، إذ مازال البرازيليون يتفاوضون مع الأمريكيين حولها، لكنه ربما يأمل في الحصول عليها، باعتبار أن الحفاظ على غابات الأمازون مسؤولية دولية، وليست مسؤولية برازيلية حصرية، وأن الولاياتالمتحدة يجب أن تعوّض البرازيل عن خسارتها في الإبقاء على غابات الامازون وتجنب الزراعة أو التعدين فيها. وقد طالب وزير البيئة البرازيلي، ريكاردو ساليس، المجتمع الدولي بتقديم مساعدة قدرها مليار دولار سنويا لدعم جهود تقليص التجريف في غابات الأمازون بنسبة 30-40% في العام. لكن ناشطي البيئة يشككون بوعود الرئيس بولسونارو، اليميني المتشدد الذي دأب على تشجيع الزراعة والتعدين في غابات الأمازون، وعدم تفعيل القوانين الرادعة للمتجاوزين عليها. ويدعو هؤلاء الناشطون إلى عدم تقديم الدعم المالي لبولسونارو حتى يرى العالم إجراءات فعلية تتخذها حكومته لحماية الأمازون من سياسات التجريف والحرق والاستيلاء على الأراضي المتواصلة. وقد أعلن 35 من المشاهير البرازيليين والأمريكيين معارضتهم لأي صفقة تعقدها الإدارة الأمريكية مع حكومة بولسونارو، لأنها سوف تعتبر في رأيهم "اعترافا بشرعية الإجراءات التي تتخذها حكومته في تجريف غابات الأمازون". كما أعلنت مئتا جمعية برازيلية في رسالة بعثت بها إلى الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أن بولسونارو، الذي وصفته الرسالة بأنه "عدو الأمازون" لا يمتلك الشرعية لتمثيل البرازيل. كثيرون في البرازيل وخارجها منزعجون مما يعتبرونه تشجيعا لتجريف الغابات والاستيلاء على أراضيها، إذ بدأت إعلانات لبيع قطع منها توضع في فيس بوك، يضعها أشخاص لا يمتلكون تلك الأراضي، بل أن بعضها يعود للسكان المحليين (أورو رو واو واو)، لكنهم لا يخشون أي عقوبة من الحكومة، بل يتوقعون صدور عفو عن تجاوزاتهم! ويتلقى بعض المحتلين لأراضي السكان المحليين دعما وتشجيعا من أعضاء يمنيين في الكونغرس البرازيلي!. ويلقي وزير البيئة البرازيلي باللائمة على الحكومات المحلية على تزايد التجريف، ويبرئ الحكومة الاتحادية من الضلوع فيها، رغم أنها قلّصت الموازنة المخصصة للوكالات التي تراقب وتفعل القوانين الرادعة للتجريف، بنسبة 40%، وأقصت رئيس المعهد الوطني لأبحاث الفضاء، الذي جمع بيانات برهنت على تزايد عمليات تجريف الغابات، بل أقصت حتى رئيس الشرطة الاتحادية الذي قاد عملية التحقيق في عمليات قلع الأشجار، وهي الأوسع في تأريخ البرازيل. ويبرر ساليس عدم تفعيل القوانين بأنه نتيجة لجائحة كورونا. لكن مسؤولين في القضاء الاتحادي البرازيلي قالوا إن الوضع قد تفاقم كثيرا في ظل الحكومة الحالية، وإن إجراءات الحكومة تتعارض مع أدائهم واجباتهم. وفي مقال نشرته جريدة الغارديان البريطانية قبل يومين، تحت عنوان "ملايين جو بايدن لن تردع حكومة بولسونارو عن تدمير غابات الأمازون"، كتبه وزيران سابقان للبيئة في الحكومة البرازيلية، هما مارينا سيلفا وروبينز ريكوبيرو، طالبا فيه الولاياتالمتحدة بالامتناع عن تقديم أي دعم مالي لحكومة الرئيس بولسونارو لأن مثل هذا الدعم "سيعزز من سلطاتها ويمكِّنُها من مواصلة سياساتها التدميرية للبيئة". وقال الوزيران البرازيليان السابقان إن "عملية التجريف وتقليص مساحات الغابات نتجت عن فشل الحكومة في حماية غابات الأمازون، وليس بسبب نقص المال، وإن الذي تحتاجه الحكومة ليس المال، بل الالتزام بالحقيقة". وذكر الوزيران أن الحكومة "تنفي وقوع الحرائق في غابات الامازون في وقت يتعالى فيه لهيب النيران، بينما تمتلئ وسائل الإعلام البرازيلية بالفضائح التي تكشف سعي الحكومة الحثيث لإضعاف المؤسسات الداعمة للبيئة، وتعطيل القوانين وتجاهل الاتفاقيات الدولية". واختتما مقالهما بالقول إن "تقديم مليار دولار سنويا (وهو المبلغ الذي تطالب به الحكومة البرازيلية المجتمع الدولي لقاء قيامها بحماية غابات الامازون) هو بمثابة هدية للمزارعين ومحتلي الأراضي الذين يحتلون أراضي الغابات التابعة للدولة وأراضي السكان الأصليين بصورة غير قانونية، ويبعث رسالة خاطئة في هذا العام الحاسم بالنسبة للبيئة". إن عدم اكتراث حكومة البرازيل الحالية بأهمية غابات الامازون للبشرية جمعاء، يشكل خطرا بيئيا يتهدد العالم أجمع، لأن تلك الغابات هي، كما سمّاها علماء البيئة، (رئتا العالم) اللتان يتنفس بهما. صحيح أن الدول الأخرى تتحمل حصتها من المسؤولية عن حماية البيئة، لأن عدم حمايتها سيسبب مشاكل صحية واقتصادية لكل بلدان العالم، لكن غابات الأمازون الطبيعية الخلابة، القائمة منذ آلاف السنين، هي الأمل الوحيد المتبقي للبشرية في الحفاظ على الحد الأدنى من المعايير البيئية والإيكولوجية اللازمة للحياة، والتي تقلِّص التدهور المناخي، في عالم يزخر بالتجريف وانحسار المساحات الخضراء وشح المياه وتفاقم التلوث وارتفاع عدد السكان. أمام العالم خياران فحسب لحل المشكلة. أما وضع غابات الأمازون تحت حماية دولية من أجل منع حكومات البرازيل، غير المهتمة بالبيئة من العبث فيها، أو التوصل إلى اتفاق ملزِم مع البرازيل لجعل الغابات في منأى عن التجريف والاستغلال الزراعي والصناعي، ودفع كلفة ذلك. المبلغ الذي تطالب به البرازيل (مليار دولار في العام) ليس كبيرا للحفاظ على هذه الثروة البيئية النادرة والضرورية، لكن المطلوب هو التأكد من أن هذا المبلغ يذهب فعلا إلى حماية البيئة وليس إلى مجالات أخرى. سكاي نيوز عربية