يعترف مؤلف كتاب "الفلسفة في الجزائر" الدكتور فارح مسرحي، بندرة الدراسات المتخصصة للحديث عن الفلسفة في الجزائر، وهذا بالرغم من مرور أزيد من نصف قرن عن تأسيس أول قسم للفلسفة في الجامعة، وهي المدة التي يراها الكاتب كافية لمحاولة تقييم المسار واستدراك النقص وتجاوز العقبات التي جعلت الدرس الفلسفي في الجزائر لا يحقق أهدافه ومن ثم لا يحظى بالاهتمام والمتابعة. وقد طرح المؤلف أسئلة في الصميم حول أسباب ذلك النقص الواضح، هل المسألة راجعة لموقع الفلسفة في المنظومة التربوية وحيثيات تدريسها أم أن المسألة مرتبطة بنظرة المجتمع للفلسفة وللمشتغلين بها؟ أم أن الأمر مرتبط بالمنشغلين بالفلسفة أنفسهم من حيث تكوينهم ومراميهم من وراء الاشتغال بالفلسفة؟ وقد حاول المؤلف في مقاربته للإجابة على مثل هذه الأسئلة، مناقشة الوضع العام للفلسفة في الجزائر درسا ونصا، من خلال طرح بعض الإشكاليات المرتبطة بها سواء كمادة تعليمية في مختلف الأطوار التعليمية، أو كفرع معرفي بإمكانه أن يسهم مع الفروع المعرفية الأخرى في تشخيص عوائق الركود والفوضى وكل مظاهر العطالة والتخلف التي تسود المجتمع الجزائري، وهو ما سوف نركز عليه في هذا الملخص لأهميته القصوى. ..سمات الكتابة الفلسفية في الجزائر بداية يسجل المؤلف بكل أسف غياب دراسات حول الفلسفة في الجزائر عموما وحول النصوص الفلسفية الجزائرية على وجه الخصوص، عدا بعض المقالات أو الكتب المخصصة لدراسة بعض أعلام الفلسفة في الجزائر، خاصة تلك المخصصة لمالك بن نبي أو محمد أركون أو تلك الأبحاث حول الجوانب الفكرية والفلسفية لزعماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهذا الغياب برأيه موجع لأنه يطيل في معاناة الفلسفة من التهميش والازدراء ومن ثم يغلق باب الاستفادة مما تتيحه من آليات تفكير ومبادئ منهجية أساسية للتفكير السليم والتخطيط الفعال. ..فلاسفة الجيل الأول (1960/1990م) قد يكون سبب تهميش الفلسفة في الجزائر وعدم الاهتمام بالكتابة حولها هو عدم وجود فلاسفة جزائريين بكل ما تحمله الكلمة من دلالة، وقد يكون هذا المبرر مقبولا وموضوعيا إلى حد كبير، خاصة إذا كان اعتمادنا في هذا الحكم قائما على المفهوم التقليدي الصارم للفيلسوف باعتباره مبدع منهج ورؤية ونسق متكامل يجيب عن أسئلة المباحث الكبرى للفلسفة، بينما سيكون الحكم بغياب تام لكتابة فلسفية في الجزائر حكما قاسيا جدا وبعيدا عما هو موجود فعلا. أنجبت الجزائر عبر تاريخها الطويل الكثير من الأعلام الذين اشتغلوا بالفلسفة سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة من خلال توظيفهم لمفاهيم ومناهج ورؤى فلسفية في مجالات بحثهم خاصة المشتغلين بالفروع المعرفية القريبة من الفلسفة كالأدب والتاريخ. في سياق السعي للتأريخ للفلسفة في الجزائر عرج المؤلف على المنجز الهام الذي صدر سنة 2013 حول المشتغلين بالفلسفة في الجزائر، والذي أنجزه فريق بحث من جامعة وهران. "وقد تضمن هذا العمل الجاد سير مختصرة مع نصوص قصيرة منتقاة بعناية للدلالة على الاهتمام الأبرز لتسعة وعشرين مشتغلا بالفلسفة من الجيل الأول أي الفترة الممتدة من 1960 إلى 1990" / 68.. مشيرا إلى ضرورة استكماله وإثرائه في المستقبل، خاصة بالأسماء المشتغلة بالفلسفة الآن من الجيل الجديد وكذا تلك الأسماء التي تشتغل بالفلسفة ولكن بعيدا عن الجامعة، على اعتبار أن فريق البحث الذي أنجز هذا العمل أشار في المقدمة إلى أنه "اكتفى بالمشتغلين بالفلسفة تدريسا في الجامعة ونحن نعلم أن الكثير من الأسماء من المختصين في الفلسفة اشتغلوا بعيدا عن التدريس بالجامعة سواء في الصحافة أو الإدارة أو غير ذلك"/ ص 69 . وهنا يشير الكاتب إلى صعوبة الحديث عن تحقيب زمني للكتابة الفلسفية في الجزائر بالنظر لصعوبة التمييز ضمن هذه الكتابة بين مراحل أو أجيال محددة المعالم بدقة، من منطلق أن الفترة الزمنية منذ استقلال الجزائر إلى الآن قصيرة نوعا ما ويمكن أن يكون هناك تداخل بين الجيلين سواء في الاهتمامات أو المناهج أو المفاهيم، كما أن هناك مشكلة مهمة يطرحها هذا التحقيب وهي وجود أعلام يمكن وصف وضعيتهم بالمنزلة بين المنزلتين، كما يوجد أعلام يمكن أن يوصفوا بالمنتمين إلى الجيلين معا / ص70. صنفهم المعجم سابق الذكر ضمن الجيل الأول بحكم تاريخ الميلاد مع أن جل نصوصهم ظهرت بعد 1990، ومثال على ذلك عبد الرحمن بوقاف، الذي أدرج اسمه في المعجم مع أن كل مقالاته نشرت بعد 1990، الأمر نفسه ينطبق على عبد الحميد خطاب، كما أن هناك بعض الأعلام المدرجين في المعجم والذين نشروا أعمالا قبل 1990 ونشروا أعمالا أخرى بعد هذا التاريخ كعمار طالبي وعبد الرزاق قسوم والبخاري حمانة وأبو عمران الشيخ والربيع ميمون رحمهما الله. يسجل المؤلف بكل أسف غياب دراسات حول الفلسفة في الجزائر عموما وحول النصوص الفلسفية الجزائرية على وجه الخصوص، عدا بعض المقالات أو الكتب المخصصة لدراسة بعض أعلام الفلسفة في الجزائر، خاصة تلك المخصصة لمالك بن نبي أو محمد أركون أو تلك الأبحاث حول الجوانب الفكرية والفلسفية لزعماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومع ذلك يبقى هذا التحقيب والتمييز الذي أقامه المعجم بين جيلين مهما وله ما يبرره خاصة على مستوى الاهتمامات التي تركزت عليها كتابات كل جيل مع بعض الاستثناءات التي لا ينبغي أخذها بعين الاعتبار. من الواضح جدا أن عدد المشتغلين بالفلسفة في الجزائر في الفترة التي شملها العمل قليلون جدا فهذا العدد أي 29 باحثا يمكن أن نجده في جامعة واحدة من الجامعات العالمية وفي وقت واحد ومع ذلك فمن المؤكد أن هناك أسماء ممن تضمن العمل سيرهم واهتماماتهم ذات وزن مهم في الساحة الوطنية و خارجها، خاصة مالك بن نبي و محمد اركون./ ص71 لقد كان للمشتغلين بالفلسفة في الجزائر من الجيل الأول ظروفا خاصة جعلتهم يتجهون بإنتاجهم الفلسفي نحو موضوعات بعينها دون أخرى، فهذا الجيل ولد ونشأ أبان الحقبة الاستعمارية وكان واعيا بحجم المعاناة التي لحقت بالمجتمع الجزائري من قبل المستعمر، لذلك كانت موضوعات الهوية العربية الإسلامية وتاريخ الجزائر ما قبل الاستعمار وبصورة عامة مشكلات الدولة والأمة ومكوناتهما أبرز الموضوعات التي تناولها هؤلاء، إذ شكل البحث عن إبراز معالم الشخصية الجزائرية وارتباطاتها الحضارية التحدي الأول لهؤلاء، مع ملاحظة مهمة في هذه المسألة وهي الاتفاق في المنهج والهدف، فقد عرفت فترة السبعينيات من القرن الماضي نقاشات فكرية وأيديولوجية كبيرة، وكان أطرافها البارزين من ذوي التكوين الفلسفي والمشتغلين بالفلسفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على غرار مولود قاسم نايت بلقاسم ومصطفى الأشرف وعبد الله شريط وغيرهم، وهي نقاشات ترافقت مع تبني الدولة لسياسة التعريب والتحول إلى تدريس الفلسفة باللغة العربية. /* ص 73 كما كان هناك تحد آخر وهو أن هذا الجيل كان مطالبا بترسيخ القاعدة التعليمية للفلسفة في الجزائر وتوفير الكتب الدراسية وهو العمل الذي تصدى له بصورة خاصة الأستاذ محمد يعقوبي الذي حمل على عاتقه ضرورة وضع اللبنة الأولى لتفكير فلسفي سليم. وكسمة بارزة للتوجه العام للجيل الأول يورد الكاتب ما خلص إليه فريق البحث الذي أنجز معجم المشتغلين بالفلسفة في الجزائر حيث نقرأ في المقدمة: "بعد جمع المعلومات تبين لنا أن الخطاب الفلسفي للجيل الأول يمكن حصره في المناحي التالية: الفلسفة العربية الإسلامية، القيم والجماليات، التطبيقات للفلسفة وتعليمية الفلسفة". تضاف إلى ذلك خصيصتين مهمتين أولهما تبني بعض المشتغلين بالفلسفة للسان الفرنسي كأداة للتعبير على غرار مالك بن نبي محمد اركون، النبهاني قربيع، مصطفى الأشرف ورضا مالك وغيرهم كثير، وهذا راجع للتكوين الذي تلقوه في المؤسسات التعليمية الفرنسية سواء في الجزائر أثناء الاحتلال أو في فرنسا، و قد تخلى جل المشتغلين بالفلسفة الآن عن الكتابة باللسان الفرنسي عدا الأستاذ محمد مولفي بجامعة وهران حسب اطلاعنا . الخصيصة الثانية للجيل الأول والتي تبدو متلاشية في الراهن هي الاشتغال على تحقيق النصوص القديمة، خاصة الأعمال التي قدمها كل من الأستاذ عمار طالبي في جمع وتحقيق أعمال عبد الحميد بن باديس وكتاب الكليات في الطب لابن رشد وكذا شرح شواهد الأشموني لعبد السلام بن عبد الرحمن السلطاني، وأبو عمران الشيخ مع شروحه وتعليقاته على فصل المقال لابن رشد. .. يتبع..