في الجزء الثاني والأخير من عرضه لكتاب "الفلسفة في الجزائر (الدرس والنص)"، نسلط الضوء على أهم الأسماء الجزائرية المشتغلة بالفكر الفلسفي وإسهاماتها في تطويره. إذا انتقلنا إلى الجيل الثاني نلاحظ أن هناك تغيرا سيطرأ على السمات العامة للكتابة الفلسفية في الجزائر، فهذا الجيل الثاني الذي سيبدأ في الظهور بحسب تقسيم المعجم "بعد سنة 1990" هو جيل كما يبدو وإن كان هذا حكما سابقا لأوانه، مختلفا في الكثير من السمات عن الجيل الأول، خاصة منذ العقد الثاني من بدايات هذا القرن، كما أنه جيل سيبدأ حراكه الفلسفي في جو سياسي وثقافي مختلف عن العهد السابق. فعلا كانت هناك أحداث كثيرة ومهمة عرفتها الجزائر مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي على مختلف الأصعدة، كالانفتاح السياسي من خلال تعديل الدستور و تبني خيار التعددية بعد أحداث أكتوبر 1988، والانفتاح الاقتصادي وبداية التخلي عن الخيار الاشتراكي والاتجاه نحو الاقتصاد الحر. ومع بداية التسعينيات دخلت الجزائر أزمة مؤسسات حقيقية كادت تعصف بالدولة ككل، لتدخل بعدها في دوامة من العنف المدمر الذي لم يسلم منه أحد، ومع ذلك لم تكن هناك نصوصا فلسفية مهمة مرافقة. ومعنى هذا أن الواقع بكل تعقيداته وإشكالياته بقي غائبا عن النصوص الفلسفية التي ستظهر حتى لدى الجيل الثاني، وهذا بالرغم من أن عدد النصوص سيتضاعف مقارنة بأعمال الجيل الأول، كما سيتضاعف عدد المشتغلين بالفلسفة نتيجة انتشار أقسام الفلسفة تدريجيا في الجامعات الجزائرية، فبعد أن كان هناك قسم واحد بجامعة الجزائر طيلة الستينيات والسبعينيات تم فتح قسمين مع بداية الثمانينيات في جامعتي قسنطينة ووهران.. ومع مطلع الألفية الثالثة انتشرت الأقسام لتصبح الفلسفة كتخصص موجودة في جل جامعات الوطن خاصة منذ تبني النظام الجديد 2004./ ص77 ولو قمنا بمقارنة بسيطة ين الجيل الأول والجيل الثاني بدا لنا بوضوح أن هذا الأخير كان كثير العدد غزير الإنتاج متعدد الموضوعات، فهناك عدد لا بأس به من النصوص ذات الطابع الفلسفي التي تظهر سنويا في الجزائر خاصة من خلال نشر الأطروحات الجامعية أو نشر محاضرات ودروس المقاييس المدرجة لطلبة تخصص الفلسفة في الجامعة في شكل كتب ضمن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، ويكفي أن نلقي نظرة على السير العلمية للعديد من الأساتذة حتى نلاحظ الكم المعتبر من الأعمال المنشورة لكل واحد من هؤلاء الأساتذة داخل الوطن وخارجه. كما نلاحظ سمة جديدة لدى الجيل الثاني من المشتغلين بالفلسفة تتجلى في الاهتمام بالترجمة، حيث انبرى بعض الأساتذة لترجمة بعض النصوص الفلسفية الغربية المعاصرة في الغالب ونقلها إلى اللغة العربية خاصة النصوص المكتوبة باللغة الفرنسية على اعتبار أن المرجعية اللغوية غالبا لدى المشتغلين بالفلسفة في الجزائر هي الفلسفة الفرنسية، ونخص بالذكر في هذا المقام على سبيل المثال لا الحصر ترجمات كل من: الزواوي بغورة لبعض أعمال ميشيل فوكو، وترجمات محمد شوقي الزين لبعض نصوص ميشال دو سارتو وغادامير، وكذا ترجمات محمد جديدي لنصوص متنوعة من الفلسفة الفرنسية، والكل يدرك أن الترجمة فعل أساسي لنشر الفكر وتطوير المعارف من خلال الاحتكاك بفكر الآخر وتوظيفه في قراءة القضايا المطروحة ومن ثم فهي ممارسة ضرورية إذا ما أراد المشتغلون بالفلسفة في الجزائر الارتقاء بكتاباتهم الفلسفية. / ص 79 والملاحظ على جل متفلسفة الجزائر من الجيلين أنهم يشتركون في المرجعية الفرنسية، بمعنى اللغة الثانية التي يستعان بها بعد اللغة العربية هي اللغة الفرنسية، فأغلب الترجمات تتم من اللغة الفرنسية كما أن أغلب الإحالات التي تتضمنها نصوصهم تحيل إلى نصوص باللغة الفرنسية. وهذه السمة لها مبرراتها الموضوعية ذلك أن الجيل الأول من متفلسفة الجزائر درسوا باللغة الفرنسية أثناء الوجود الاستعماري، ومن ثم فهي أقرب اللغات إليهم وأيسرها عليهم.. كما أن وجود اللغة الفرنسية ومكانتها في الجزائر محمي بقانون ابن خلدون الذي ينص على أن "المغلوب مولع بتقليد الغالب" أولا وبالتوجهات الأيديولوجية للطبقة الحاكمة في الجزائر التي لم تستطع فك الارتباط الثقافي مع فرنسا بعد فك الارتباط الجغرافي والسياسي ثانيا، و"في حدود اطلاعنا على النصوص الفلسفية الجزائرية نستطيع أن نستثني من هذه السمة كلا من عمار طالبي وعبد المجيد مراني وعبد الرحمن بوقاف الذين يميلون في كتاباتهم إلى استشارة مراجع اللغة الأنجليزية"./ ص 80. بالنسبة للموضوعات التي تركزت حولها كتابات الجيل الثاني فمن الصعب حصرها بالنظر لكثرة الأعمال وتعدد هذه الموضوعات، ولكننا نستطيع تسجيل بعض الملاحظات العامة، فقد استمرت موضوعات الجيل الأول بصورة أو بأخرى كموضوع الهوية والتاريخ وإن لم تظهر كتب حولها إلا أنها شكلت مادة الكثير من المقالات، مثلما استمر الاهتمام بتعليمية الفلسفة وأجريت العديد من التغييرات على كتب الفلسفة وأجريت العديد من التغييرات على كتب الفلسفة الخاصة بالتعليم الثانوي. وفي المقابل بامكاننا تسجيل نقص الاهتمام بالفلسفة الإسلامية الكلاسيكية وتحول الباحثين من الجيل الثاني للاشتغال على قضايا وأعلام الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، كعبد الحميد بن باديس والإبراهيمي ومالك بن نبي ومحمد أركون والجابري وحسن حنفي.. / ص 81 وترافقت حركة الترجمة مع انفتاح كبير لدى الباحثين الجزائريين على الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، فظهرت العديد من الكتابات حول أعمال كانط، هيغل، نيتشه، جون بول سارتر ميشيل فوكو، وخاصة تلك الأعمال التي قدمها كمال بومنير حول مدرسة فراكفورت أو الأعمال التي نشرها الأستاذ عمر مهيبل ترجمة وتأليفا". ص 82 لن يكون هناك مستقبل مشرق للفلسفة في الجزائر ما لم تستطع كسب أصدقاء ومحبين وجمهور قارئ لنصوصها . طبعا من غير الممكن الإلمام بكل ما كتب من قبل الباحثين في الفلسفة الغربية، لكن يبقى المهم هو الإشارة إلى التحول الكبير في العلاقة مع الفكر الغربي بين الجيلين، ففي مقابل الالتفاف على الهوية العربية الإسلامية والمقت الكبير للمستعمر الفرنسي لدى الجيل الأول كما سبقت الإشارة، نلاحظ انفتاحا كبيرا لدى الجيل الثاني للاطلاع على الفكر الغربي وإرادة كبيرة لنقل نصوصه وتوظيفها قدر المستطاع، مع أن مسألة التوظيف تبقى في أولى خطواتها لأنها تتطلب الهضم والاستيعاب الجيد، وهذا ما لم يتم بالصورة الكافية لحد الآن مع أننا نلاحظ في هذا السياق بعض الاجتهادات في قراءة الراهن الجزائري وقضاياه بأدوات فكرية غربية خاصة بعض إسهامات عبد الرحمن بوقاف التي يستند فيها إلى النقد الكانطي والجدل الهيغلي أو بعض إسهامات الزواوي بغورة القائمة على المنهجين البنيوي والأركيولوجي، أو بعض قراءات بوزيد بومدين التي تتخذ من التأويلية متكئا منهجيا لها./ ص 83 ويعرف الكاتب إلى إحدى أهم الاشكاليات التي تعاني منها الكتابة الفلسفية في الجزائر، وهي إشكالية المنهج والهدف، مستثنيا بعض الأعمال خاصة لدى الجيل الأول ذات التوجه المنهجي والأيديولوجي الواضح، "فالكثير من الأعمال التي تنشر في الآونة الأخيرة هي أعمال وصفية تعريفية بالأعلام والمدارس أكثر من كونها أعمالا إبداعية ذات هم فلسفي وتوجه منهجي دقيق وصارم.. وفي هذه المسألة بالذات يميز عبد الرحمن بوقاف بين نص بقضية ونص بلا قضية، ويوضح هنا ميزة كل منهما قائلا: "النوع الأول نادر، بل هو شبه منعدم، باستثناء ما كتبه أستاذنا عبد الله شريط، ويمكن إضافة مصطفى الأشرف، أما مالك بن نبي فصحيح أنه يحمل قضية ولكن فضاءه البحثي ليس الجزائر بل العالم الاسلامي" ./ص 84 معنى هذا أن هناك نصوصا مهمومة بقضايا معينة لأن أصحابها على وعي بما تفرضه انتماءاتهم وملتزمون بالبحث عن حلول لما هو مطروح في مجتمعاتهم وقد يختار المفكر الالتزام بقضايا محلية أو وطنية كما هو الحال بالنسبة لنصوص عبد الله شريط أو نصوص مولود قاسم نايت بلقاسم المهمومة بقضايا المجتمع الجزائري مع تباينهما في التوجه الأيديولوجي طبعا، كما قد تكون قضاياه تتجاوز الوطن كنصوص مالك بن نبي المهمومة بقضايا العالم الإسلامي، و لكن هذه النصوص بقضايا تبقى نصوصا قليلة جدا مقارنة بالنصوص الأخرى التي لا نلمس توجها واضحا لدى أصحابها ولا ارتباطا واضحا بقضايا الواقع جزائريا كان أو إسلاميا . كما أن هناك سمة جديدة يصر الكاتب على الإشارة إليها وهي خاصة بالجيل الثاني من متفلسفة الجزائر دون الجيل الأول ونقصد بها حضور العنصر النسوي في المشهد الفلسفي الجزائري، حيث "أصبحنا نقرأ أعمالا مهمة للكثير من أستاذات الفلسفة على غرار فريدة غيوة في جامعة قسنطينة وخديجة زتيلي في جامعة الجزائر وغيرهما من الأستاذات اللواتي أصبحن يسجلن حضورا قويا ومحترما بنصوص أو بمشاراكتهن في الملتقيات الفلسفية سواء داخل الوطن أو خارجه، دون أن تكون هناك خصوصية معينة لكتاباتهن تجعلها متميزة عن كتابات الأساتذة من جيلهن./ ص 86 ..مستقبل الفلسفة في الجزائر ويخلص مؤلف الكتاب إلى تحميل المشتغلين بالفلسفة في الجزائر مسؤولية الدفع بالفلسفة والتفلسف إلى الأمام من خلال تنويع البحوث والمناهج والاهتمام أكثر بالترجمة وبالنشر لأبحاثهم ومقالاتهم خلقا للحيوية الفكرية وفتحا للمجال أمام الجدل والحوار والاختلاف لأنها سبل التطور، مشيرا إلى أنه يقول هذا الكلام "لأنني أعلم أن الكثير من الأساتذة والباحثين أنجزوا دراسات مهمة غير أنهم تركوها حبيسة مكتباتهم الخاصة ولم يسعوا إلى نشرها تعميما للفائدة، ورغم ما لديهم من مبررات موضوعية إلا أن هذا السلوك يفترض ألا يصدرعن محب للفلسفة حقا". كما أن المشتغلين بالفلسفة "مطالبين أيضا بالانفتاح على المرجعيات الأخرى دون العربية والفرنسية لان الفلسفة متنوعة بتنوع الثقافات ونحن حصرنا اهتمامنا بالثقافة العربية وإن حدث وفتحنا أعيننا فنحو الثقافة لفرنسية دون غيرها، والعالم بطبيعة الحال أوسع من فرنسا بكثير مثلما يكون الانفتاح على المرجعيات الفلسفية المتعددة ينبغي أن يكون هناك انفتاح من قبل المشتغلين بالفلسفة إلى الفروع المعرفية الأخرى لاسيما الأدب والتاريخ والعلوم بمختلف تفريعاتها". / ص 90 ويؤكد الدكتور فارح مسرحي أنه من دون هذا الانفتاح ستبقى الفلسفة في الجزائر غير قادرة على التجدد وعلى الإثراء المفاهيمي والمنهجي ومن ثم لن يكون باستطاعتها التشخيص الدقيق لما يحدث ولا التنبؤ الصادق بما سيحدث وستبقى مجرد إعادة إنتاج لتاريخها، بمعنى أنه لن يكون هناك مستقبل مشرق للفلسفة في الجزائر ما لم تستطع كسب أصدقاء ومحبين وجمهور قارئ لنصوصها.