لماذا فشل الربيع العربي في إحداث نقلة نوعية في اتجاه بناء مؤسسات ديمقراطية، كانت من أهم أهداف الثورة؟ في أي قراءة للتغيير السياسي في الدول العربية، التي أسقطت ثوراتها الشعبية أنظمة استبدادية، والتي عرفت بالربيع العربي، وهو بحق ربيع عربي، من حيث النية والرغبة في التخلص من الطغيان، ومصادرة الرأي وحرية الكلمة والافتقار إلى التنمية الحقيقية، التي تحفظ للناس كرامتهم؛ بتوفير فرص العيش الكريم لهم، وتوفير الأمن بشقيه الشخصي والعام؛ وأن يكون لهم صوت في اختيار من يمثلهم في التشريع، وتنفيذ السياسات في الميادين الاقتصادية والتجارية والمالية والثقافية والاجتماعية، وفي التنمية الصناعية والزراعية وما إليها، نجد أياً من هذه الأهداف لم يتحقق، ولو بقدر بسيط، بل العكس تماما؛ حلّ الخراب والدمار والحروب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد. فمن هو المسؤول عن هذا الإخفاق والفشل؟ هل هو الشعب الذي لم يطلب سوى العيش بحرية وكرامة؟ أم أن الشعب لم ينضج بعد، ليكون في مستوى هذا التحول؟ أم أن هناك عاملاً آخر؛ عرقل هذا المسار، لغاية ذات أبعاد استراتيجية، ليس لها علاقة بهذا التحول، أو أن هذا التحول لا يخدم مشاريعها المستقبلية، إذا ما تمت ترجمته على أرض الواقع؛ إنفاذا لإرادة الشعب وطموحه في التغيير الحقيقي، المنتج للتحول نحو حياة أفضل؟ تلك الأسئلة لم تحظ بإجابات شافية تسلط الضوء على جوهر المشكلة، بقراءة عميقة لمجريات الأمور على صعيد الواقع، بل إن أغلب القراءات، كانت تدين الشعب، وتحمله مسؤولية الفشل والإخفاق؛ بإلصاق تهمة التبعية والعمالة بثوار الربيع العربي، واتهامهم بالإرهاب، وهم براء منه، بل العكس فإن من جاء به، هو العامل الخارجي بخطيه الدولي والإقليمي، بقصد حرف الثورات عن غاياتها؛ وبالتالي عن هدفها المنشود، ما أدى بالشعوب للحنين إلى أنظمة الاستبداد العربي، بسبب ما تعرضوا ويتعرضون إلى الآن له، من قهر وظلم وفقر وجوع واللجوء إلى ديار الغربة على ما في ذلك من ذل ومهانة.. لا بد لنا من أن نشير هنا إلى أنه، ليس بالضرورة أن يكون بين القوى الدولية العظمى (أمريكا وغيرها) وقوى الإرهاب في العالم، وفي المنطقة العربية حصريا، أي اتفاق، لأنه يضر بها؛ لكنها تفتح الممرات وتهيئ البيئة السياسية، له كي يدخل، ويغير المشهد السياسي وقواعد الاشتباك؛ وهي تدرك؛ أنها بذلك تصل إلى ما تبغيه، ففي تونس ما حدث مؤخرا انقلاب على من جاءت بهم الانتخابات الديمقراطية، ولا يمكن أن يقوم هذا الانقلاب على الشرعية الديمقراطية، إلا بضوء أخضر من الفاعلين الدولي والإقليمي، فالجميع لا يهمهم نجاح الممارسة الديمقراطية، بقدر ما يهمهم ضمان مصالحهم. وكي يصل هؤلاء إلى هذا الهدف، يقومون بزرع العراقيل وحفر المطبات في طريق الديمقراطية؛ ما يقود إلى تشويه صورتها أمام الشعب، وإلى رفضها من الشارع الذي يكون قد تهيأ نفسيا وعقليا، للتقبل والترحيب بهذا الانقلاب. وفي مصر جرت العملية نفسها، وإن بطريقة أكثر موضوعية وعملية، لكنها تظل عملية انقلاب على الشرعية، التي انتجتها صناديق الاقتراع. فعندما اندلعت الثورة الشعبية في مصر، كان المشير حسين طنطاوي وزير الدفاع في حكومة حسني مبارك، في زيارة عمل إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أنه عاد على جناح السرعة، وبعد أيام من عودته، أصدرت القيادة العامة للقوات المصرية، التي يحتل المشير طنطاوي المقعد الأول في رئاستها؛ بيان رقم واحد على طريقة بيانات الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول المنطقة العربية؛ ليتم عزل الرئيس حسني مبارك، وينقل مع عائلته إلى منتجع شرم الشيخ. إن هذا يثير الكثير من الشكوك والأسئلة عن دوافع هذا السلوك الانقلابي على نظام مبارك من قبل مسؤولين كانوا جزءا من النظام، وهي عملية بدت في الأيام التالية، وكأنها موقف مساند وداعم، لانتفاضة الشعب، في حين أن واقع وهدف هذه الحركة الانقلابية كان احتواء وحرف اتجاه الثورة المصرية. هذه الشكوك تحولت إلى حقائق بعد أن تأكد ترسيخ النظام ذاته، بوجوه جديدة، وبتأطير سياسي جديد على أنقاض القديم؛ لكنه أخطر منه لناحية تغير المشهد السياسي في مصر، ولتحالفات مصر الدولية والإقليمية. بعد عزل الرئيس حسني مبارك؛ تولى المسؤولون العسكريون زمام المرحلة الانتقالية، وجرت الانتخابات لاحقا، وفاز فيها الدكتور محمد مرسي. هنا بدأت طاحونة التغيير في غير صالح الحكومة المنتخبة الجديدة؛ بزرع كل ما يعرقل عملها، مع تسليط الإعلام المبرمج ضدها، من غير إعطائها الفرصة لترجمة مشاريعها على أرض الواقع، ومع تسليم القوة العسكرية التي تمثلها وزارة الدفاع للمشير محمد السيسي، الذي كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش في وزارة حسين طنطاوي، والذي لم يخضع من الناحية الفعلية للرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، ثم توالت الأحداث الدراماتيكية، وكانت في أغلبها مفتعلة، مع ضخ إعلامي، محلي وعربي ودولي؛ لتشويه صورة الحكومة الجديدة المنتخبة، ودفع الناس للتظاهر ضدها، إضافة إلى تعالي الأصوات عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي؛ لرفض سياسة الحكومة المنتخبة، التي لم يمض على انتخاب الشعب لها سوى أشهر قليلة، وهي فترة غير كافية، لتتوضح سياستها أمام الشعب.. هذا التحول؛ يؤكد أن هناك طبخة؛ تم الإعداد لها في دهاليز صناعة السياسة، في الحقلين الدولي والعربي على وجه التحديد. هنا طلب وزير الدفاع من الشعب كي يعبروا عن رفضهم لحكومة الدكتور محمد مرسي؛ التظاهر ضد الرئيس المنتخب؛ حتى تكون له في ذلك حجة لعزله بقوة السلاح التي يمتلكها، أو يسيطر عليها، كونه وزيرا للدفاع، وهذا ما حصل. ما أريد التوصل إليه هو الدفاع عن الديمقراطية وحق الشعوب العربية في صناعة حياتها ومستقبلها بنفسها وبقدراتها الذاتية، لخدمة حاضرها ومستقبلها، وليس من خلال الخداع الإعلامي وافتعال الحوادث لتغيير مجريات الأمور والأوضاع، بما يجعل الممارسة الديمقراطية في انتخاب السلطة التشريعية والتنفيذية، بالشكل الذي يجعل منها؛ أداة لعودة الديكتاتوريات العسكرية، وإن كانت بوجوه مدنية، ولكن بعقلية العسكر من حيث التسلط والشمول. وفي سوريا وليبيا واليمن لايزال المخاض عسيرا، وضحيته الشعب بما يدفع من الدماء والجوع والتيه واللجوء إلى أركان المعمورة. في سوريا رغم سيطرة النظام السوري على 80% من أراضي الدولة، لكن هناك احتلالات للأرض السورية بحجج واهية، وعلى مرأى ومسمع من الحليف الروسي؛ إضافة إلى الهجمات التي تقوم بها الطائرات الإسرائيلية. الشعب السوري يعاني من الجوع والحصار، ولا يوجد حتى هذه اللحظة أي بارقة أمل في تغيير الأوضاع نحو الأفضل. في الجانب السياسي لم تتقدم عملية كتابة الدستور ولو خطوة واحدة.. لجنة كتابة الدستور، التي تم تشكيلها طبقا لقرار مجلس الأمن الدولي 2254، لم تجتمع منذ فترة طويلة. وإذا لم تتم كتابة الدستور الجديد لسوريا، ويتفق النظام والمعارضة والموالاة عليه، فهذا يعني أن المرحلة الانتقالية لن تبدأ، ولا يوجد أمل في الاتفاق على صياغته بين الاطراف السورية قريبا؛ وبالتالي لن يتم إجراء انتخابات لاختيار حكومة وبرلمان يقودان سوريا نحو الأفضل، كما أن القوى الدولية تشترط للمشاركة في إعمار سوريا؛ أن يتم تحقيق ما تقدم، وهي كلمة حق يراد بها باطل. القوى الدولية، بما فيها روسيا، والقوى الإقليمية، كل منها حسب الطريقة الملائمة والمجال المفتوح أمامها، أو هي من تعمل على تخليقه، حرفت مجرى الثورة السورية عن طريقها الصحيح لتغيير النظام، وبناء دولة مدنية وديمقراطية؛ بفتح الطريق والحدود أمام عناصر الإرهاب، كي تغير الأوضاع وتحرف حركة الثورة عن هدفها، لتصبح الجغرافيا السورية، تاليا، موزعة على عدة انتماءات وولاءات خارج الحدود، عربيا وإقليميا ودوليا، بما يتناقض تناقضا كاملا مع أهداف الثورة، حتى أصبحت الجغرافيا السورية؛ ميدان عمل ونهب واستغلال لثروات الشعب السوري، من قبل القوى الدولية والإقليمية، بحجج متنوعة حسب نوع جهة الدعم للنظام السوري، أو دعم القوى المضادة للنظام، الأكراد مثلا. هذه الأوضاع الساخنة والدموية أدت إلى إفراغ الثورة السورية من محتواها، وأجهضت حلم الشعب في حياة أفضل، ومستقبل واعد. وفي العراق هناك ديمقراطية تحبو على طريق المستقبل المجهول، بمساعدة عناصر من خارج الجسد العراقي. وهي تنتظر من الجسد الديمقراطي العراقي الذاتي، أي المعتمد كليا على قدرات شعب العراق في الصياغة العملية لديمقراطيته التي تنتج في الواقع؛ الأسس الصحيحة، والسليمة لها، في منطقة تتغير ساحات الصراع، تكتيكيا واستراتيجيا فيها سريعا، من دون تدخل عناصر خارجية، لها أهدافها وغاياتها التي لا تتطابق مع غاية جسدها الديمقراطي.. وفي لبنان وليبيا واليمن؛ لا يوجد حتى هذه اللحظة ضوء في نهاية نفق الحرب، أو الانهيار الاقتصادي. لم يبق سوى السؤال الأهم والأخطر؛ من المسؤول عن هذا الفشل، بل عن هذه الدماء والجوع والفقر والمرض وتيه الشعوب العربية في أصقاع الكرة الأرضية، الشعوب العربية؟ أم العامل الخارجي الدولي والإقليمي؟ أترك هذا السؤال بقصد من غير إجابة. القدس العربي