أزمة المحروقات تكاد تكون عالمية. تعددت أسبابها وظاهرها واحد: رفع المنتجون أثمان الغاز بعد زيادة الطلب. سأتناول بريطانيا، أولاً لمعرفتي بسياستها وللمسؤولين فيها شخصياً لعملي في البرلمان، وثانياً أنه، بخلاف عدد من البلدان الأوروبية، لم تتخذ الحكومة ما يكفي لحماية المستهلك من زيادة الفواتير المنزلية. الأهم أن الأزمة هنا تذهب إلى أبعد من ارتفاع الأسعار، أو نقص عدد سائقي شاحنات النقل الثقيل – خاصة صهاريج البترول ومشتقاته، والغاز المسيل. هناك نقص 100 ألف سائق في المملكة المتحدة. وبينما تستمر الوسائل الصحافية (التي تسيطر عليها مجموعة ليبرالية يسارية) في تضليل الرأي العام بإعزاء الأسباب إلى «بريكست»، فإن الأمر يعود لجشع أصحاب مؤسسات صناعة النقل بالاعتماد على سائقين من الاتحاد الأوروبي بأجور دون مستوى الأجور الملائمة لتكاليف المعيشة للمواطن البريطاني، ولم يستثمروا في تدريب جيل جديد من شباب البلاد على قيادة الشاحنات. أما استمرار إجراء السائقين اختبارات «كوفيد» إجبارياً وعزلة عدة أيام لمن يثبت حملهم للفيروس، فقد دفع كثيرين لترك المهنة إلى أخرى. أيضاً سوء إدارة حكومة المحافظين، بتوريطها نفسها في سياسات دوافعها آيديولوجية أكثر منها عملية، تلائم الاشتراكيين كحكومة العمال السابقة، لكنها تناقض روح ومفاهيم المحافظين. التاريخ حافل بسياسات يكون ثمن تطبيقها الاقتصادي الاجتماعي فادحاً، والسبب عادة أن الآيديولوجية تعمي صناع القرار عن رؤية الواقع الاجتماعي والجغرافي، والثقافي. خذ مثلاً الثقافة الاجتماعية البريطانية؛ فقد تعرضت لتخريب مستمر ومتعمد عبر وسائل صناعة الرأي العام، وخلقت خرافة الهوس الذي تحول إلى عقيدة هيستيرية بأن التغيير المناخي من صنع الإنسان (والحقيقة أن النشاط الصناعي الإنساني مسؤول عن سبعة في المائة من التسخين الحراري)، بل وفي الغرب فقط، فهم متساهلين مع الصين واقتصادها يضيف قرابة 30 في المائة من عادم الكربون العالمي، بينما يساهم اقتصاد بريطانيا بواحد في المائة فقط. الحكومة ترفض الاستجابة لدعوة الأقلية العاقلة لتخفيف الأعباء عن الأسر الفقيرة مثلاً بتجميد ضريبة «المبادرات الخضراء» على فواتير الطاقة المنزلية، بسبب ضغوط جماعات اليسار الخضراء والبيئة التي تحولت الوسائل الصحافية إلى منبر دعاية لها. هذه الهستيريا أدت إلى قرار بإنهاء الاعتماد على محروقات الكربون كالبترول والغاز مبكراً وإهدار الأموال على دعم المبادرات الخضراء (مسبباً زيادة الفواتير) كالتوسع في مشروعات الطاقة المتجددة كالرياح والشمس التي ساهمت في 28 في المائة من توليد الكهرباء في بريطانيا في 2020 بشرط هبوب الرياح في 40 في المائة من أيام العام، لكن سرعة الرياح لا تزال منخفضة، لقرابة شهرين، عن المعدل اللازم لتشغيل التوربينات الهوائية فاستعيض عنها بطاقة الغاز، مما أدى لزيادة استهلاكه. الطاقة النووية النظيفة المستمرة على المدى الطويل تساهم فقط ب16 في المائة فقط من إنتاج الكهرباء، لعدم استثمار الحكومة فيها استجابة لضغوط البيئيين، وبالمقارنة تساهم المحطات النووية بتوليد 70.6 في المائة من كهرباء فرنسا التي تجاهلت ضغوط الخضر. كما أن انفتاح الاقتصاد بعد إغلاق وباء «كوفيد» أدى إلى زيادة في استهلاك الغاز، فمثلاً كان 68.4 طن متري في 2020، مقابل 74.3 مليون طن في 2019. ومن المتوقع أن يصل 76 – 77 مليون العام المقبل. والغاز بالغ الأهمية للاستهلاك المنزلي الذي يشكل 73 في المائة من الاستهلاك القومي، وحتي المنازل التي تعتمد على الكهرباء، فإن محطات توليدها تستهلك 28.6 في المائة من إجمالي استهلاك البلاد. البترول ومشتقاته (ضروري للنقل والمواصلات والطيران) انخفض من 47 مليون طن في 2019 إلى 38.2 مليون طن في 2020، وتسرع الحكومة بسياسة استبدال محركات الاحتراق الداخلي بالكهربية ستزيد الحاجة لتوليد الكهرباء وبالتالي المزيد من الغاز. أقدم أنواع الوقود، الفحم، انخفض إنتاجه المحلي إلى أقل من 2 في المائة في 30 عاماً، من 92.8 مليون طن في 1990 إلى مليون و700 ألف طن في 2020، وكان المستورد في 1990، 14.8 مليون طن (تمثل 14 في المائة من الاحتياجات القومية) فإن نسبة المستورد – أربعة ونصف مليون طن – إلى الإنتاج المحلي ارتفعت في العام الماضي إلى 72.6 في المائة لمواجهة احتياجات الصناعة. وهي الأرقام التي يتجاهلها أصحاب حملات البيئة وإغلاق حقول البترول والغاز ومناجم الفحم البريطانية، إذن تضطر الصناعة إلى الاعتماد على الاستيراد وتخفي الوسائل الصحافية حقائق الأرقام عن الرأي العام، حيث لا تذكر إنتاج الكربون المستخدم في استخراج الفحم وتعبئته بوسائل بدائية أو في تشغيل سفن نقله إلى بريطانيا. ولا يزال الفحم لازماً لتشغيل بعض محطات توليد الطاقة البريطانية بحاجة مليونين و300 ألف طن فحم سنوياً. وبينما كان تصدير بريطانيا في 1990 ما قيمته ثمانية مليارات و100 مليون جنيه من البترول الخام، واستوردت ما قيمته ستة مليارات و400 مليون (لارتفاع أسعار بترول بحر الشمال مقابل المستورد من الخارج)، فقد ارتفع رقم المستورد في العام الماضي إلى 21 مليار و800 مليون مقابل تصدير 23 مليار و900 للتصدير، حسب المكتب القومي للإحصائيات. ومثل الفحم، الضغوط من البيئيين والالتزام الآيديولوجي دفعت إلى إلغاء تراخيص التنقيب عن حقول جديدة. وكانت البلاد تنتج 138.3 مليون طن بترول في 2000 انخفضت إلى 38 في المائة (53 مليون طن) في 2020، وزادت الحاجة للاستيراد، مساهماً في زيادة عوادم الكربون لتشغيل الناقلات ويهدد الأمن القومي بالاعتماد على استيراد الطاقة. إنتاج بريطانيا من حقولها الطبيعية (البحرية) من الغاز انخفض من 246.7 مليون طن في عام 2000 إلى قرابة الثلث (91.4 مليون طن) في العام الماضي بسبب الضغوط من البيئيين وغياب استراتيجية للطاقة بسبب الهوس الآيديولوجي المعادي للمحروقات. كانت نسبة الغاز المستورد دون نصف في المائة من الإنتاج المحلي في عام 2000، حسب أرقام وزارة الصناعة، واليوم يفوق الإنتاج المحلي مرة ونصف بعجز يقارب 108 ThW (وحدة قياس جغرافية ديموغرافية عن استهلاك الطاقة بالتناسب لعدد السكان بميغا – وات أو مليون كيلوات). ارتفاع أسعار الغاز خمسة أضعاف سيؤدي إلى أزمة اقتصادية ويضر بالشرائح الفقيرة، لكن خطاب رئيس الوزراء بوريس جونسون في الأممالمتحدة عن التغيير المناخي، وحساسيته لإحراج الصحافة عشية استضافته قمة التغيير المناخي (في نوفمبر (تشرين الثاني) هذا العام) لا يشير إلى اقتراب تخلي حكومته عن الهوس الآيديولوجي واتباعها استراتيجية أكثر انسجاماً مع الواقع الاقتصادي وحماية للأمن القومي.