تغيرات جذرية فرضتها جائحة كوفيد 19 على السلوك البشري حول العالم. تعاطت التكنولوجيا مع هذه التغيرات عبر ما أتاحته الثورة الصناعية الرابعة من تقنيات. وهكذا اتسعت دائرة المعرفة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، في كل الدول ولدى مختلف الشعوب، بعدما بات استخدامها واقعاً في الحياة اليومية. فالروبوتات تقدم الأطعمة في المطاعم، وتقيس الحرارة وتقدم الرعاية الصحية في المستشفيات. والطباعة الثلاثية تتيح أجهزة تنفس اصطناعي سريعة، لتواكب الطلب المتزايد عليها بعد الأزمة. وقد تزامن استخدام تقنيات الثورة الصناعية في مجالات الرعاية الصحية مع استخدامات أخرى في مجالات التسويق والترفيه والإعلام، ليبشر كل ذلك بتطور جديد لمفهوم العولمة ودلالالتها، فتصبح أكثر إنسانية، كما يشرح محمد عبد الظاهر، الباحث الأكاديمي ورائد صحافة الذكاء الاصطناعي في كتابه "العولمة 4.0 ومستقبل الإعلام في حقبة صحافة الجيل السابع" (دار بدائل ومؤسسة صحافة الذكاء الاصطناعي للبحث والاستشراف – دبي). يستعرض الكاتب التقنيات التي نتجت عن الثورة الصناعية الرابعة مثل الروبوت، الخوارزميات، الطباعة الثلاثية الأبعاد، "البلوك تشيند نيوز"، التسويق الروبوتي، البيانات الضخمة، إنترنت الأشياء، إنترنت الأجسام، تقنيات الواقع الافتراضي والمعزَّز، ومنصَّات الحوسبة السحابية. ويتوقع ظهور تقنيات جديدة وثورة صناعية خامسة تبدأ في ثلاثينيات القرن الحالي، لتسفر عن شكل جديد للإعلام أطلق عليه الكاتب "صحافة الجيل السابع". والصحافة التي يقصدها عبد الظاهر تشمل كل أنواع المحتوى، الذي ينتقل إلى الجمهور، عبر الإذاعة أو التلفزيون أو الصحف المطبوعة أو الرقمية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو تطبيقات الهاتف. هذه الصحافة الجديدة ستزامن ظهور عصر جديد من العولمة "العولمة 4". تختلف فيه دلالات المفهوم، فبينما كان يترك سابقاً في الذهن معاني مثل التوحش وسيطرة الرأسمالية والمنفعة الاقتصادية على حركة الإنسان، سيصبح الأمر مختلفاً، فتكون العولمة في نسختها الجديدة أكثر إنسانية، بحيث تعمل على تحسين ظروف معيشة الإنسان في كل بقاع العالم. وإن كان ذلك يتطلب – كما يرى الكاتب – إعادة هيمنة العقل البشري على الآلات وعلى تقنيات الذكاء الاصطناعي وإضفاء الطابع الإنساني عليها. ..تطور العولمة لتفسير مفهوم "العولمة 4.0″، استعرض الكاتب مراحل تطورها وارتباطها بالثورات الصناعية. فالعولمة 1 صاحَبت الثورة الصناعية الأولى، والتحول من الورش الصغيرة إلى إنشاء المصانع الكبرى، وزيادة الإنتاج، ونمو الصحافة وزيادة شعبيتها. بينما صاحبت العولمة 2 الثورة الصناعية الثانية التي أسفرت عن تطور صناعي كبير، لاسيما في صناعة السيارات والطائرات والكهرباء والهاتف أيضاً. وتبعتها ثورة في صناعة الإعلام لاسيما مع ابتكار صامويل موريس لتقنية التلغراف، التي جعلت في مقدور الوكالات الإخبارية؛ الإطلاع على كل ما يجري في العالم. تزامن ذلك مع بدء البث في الراديو عبر الموجات الطويلة 1896. أما العولمة 3 فارتبطت بنتائج الحرب العالمية الأولى والإعلان عن عصبة الأمم، نزع السلاح العالمي وتسوية النزاعات، ونشوء اقتصادات جديدة مثل الهند والصين، فضلاً عن ظهور الإنترنت، الأقمار الاصطناعية، القنوات الفضائية، صحافة المواطن، وسائل التواصل الاجتماعي. وهكذا ارتبط نمو الإعلام بالعولمة 3؛ وهذه العولمة أصبحت أكثر قوة بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة التحالفات السياسية، وباتت أكثر وحشية وصرامة، فكانت قائمة لصالح مصالح العالم المتقدم على حساب الدول الفقيرة. ثم ظهرت كمرحلة أخيرة العولمة 4. وجوهر هذه العولمة وفق تفسير رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب، يعتمد على تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وما أحدثته من تغير فيطبيعة التبادل بين الدول والمنظمات اعتماداً على الاتصال الرقمي وتدفق الأفكار والخدمات. ..التقنيات وسوق العمل رصد الكاتب الآثار التي ترتَّبت على كوفيد 19 في سوق العمل، وعلاقته بتسريع نتائج التطور التقني، وتعزيز الاستفادة من التقنيات التي أتاحتها الثورة الصناعية الرابعة، وأدت إلى الاستغناء عن العمالة التي تفتقر إلى المواهب، وحلول الآلات محلَّ الملايين في الوظائف التقليدية، والاعتماد على المهارات الديناميكية، التي تتيح لمَن يملكونها القيام بأكثر من عمل في الوقت نفسه. وأشار إلى ما ورد في الإصدار الثالث من تقرير "مستقبل الوظائف"، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، والذي يرصد وظائف المستقبل ومهاراته ، ويؤكد أن نصف المواهب البشرية حول العالم، ستحتاج إلى إعادة تنمية ما لديهم من مهارات، خلال السنوات الخمس المقبلة، حتى يضمنوا بقاءهم في وظائفهم. لقد بات بإمكان الروبوتات إنجاز العديد من المهام بشكل أسرع من البشر، لكنها لا تزال تفتقر إلى الإبداع والمهارات العاطفية. ومن هذا المنطلق استشرف عبد الظاهر طبيعة العمالة التي سيستمر الطلب عليها، وحدَّدها بأصحاب المهارات التي لا يمكن لأجهزة الكومبيوتر تكرارها، إضافة إلى العمال الذين لديهم المهارات اللازمة لاستخدام وبناء وابتكار تكنولوجيا المستقبل. ..العالم بعد2030 في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2018، استيقظ العالم على أخبار اختراع الرقائق الدقيقة، ليتم غرسها في بعض الموظفين في المملكة المتحدة. وهذا ما يعيد إلى الأذهان الذكاء الاصطناعي، الذي شوهد في أفلام الخيال العلمي. وكانت السويد في طليعة شركات صناعة الرقائق الدقيقة، إذ تم إدخال رقائق ميكروية في أيدي حوالي 3000 سويدي، يمكنها حمل رموز الدخول وشراء تذاكر القطار والوصول إلى بعض آلات البيع أو الطابعات. كذلك تم استخدام تلك الشرائح الذكية في مجال الطب والرعاية الصحية بصورة كبيرة، لتنظيم ضربات القلب، زراعة الأطراف الاصطناعية، وفي مكافحة الصرع والاكتئاب. وهناك تقنيات ذكية تم تطويرها لتقديم علاج للسرطان، وأخرى تقوم بمراقبة الأجهزة الداخلية في المعدة وإرسال تقارير الحالة إلى هاتف ذكي. كما يجري حالياً اختبار زرع جهاز في الدماغ لعلاج أعراض باركنسون والزهايمر بواسطة رقائق. وفي أبريل (نيسان) 2021 ، أصدر الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا Elon Musk مقطع فيديو يوضح كيف طوَّرت شركته Neuralink – شريحة يمكن أن تسمح للقرد بممارسة ألعاب الفيديو. وأعلن عن خطط الشركة لإطلاق تجارب بشرية بحلول نهاية العام، بهدف الوصول إلى «الإدراك البشري الخارق»، لمواجهة تفوق تقنيات الذكاء الاصطناعي، الذي يعتقد أنها قد تكون مدمرة للبشر، إذا استمرت في تفوقها عليهم. من هذه المقدمات انطلق عبد الظاهر إلى استشراف ملامح المرحلة الجديدة، التي ستزامن انتهاء حقبة الثورة الصناعية الرابعة، وبداية الخامسة. وما سينتج عنها من تغيير في شكل الإعلام، وبداية صحافة الجيل السابع، في ظل حالة من التناغم بين العقل البشري والآلة، بهدف جعل العالم أكثر إنسانية، «أكثر إنتاجية وكفاءة وتطوراً». وأكد أن الاندماج التقني الجديد بين التكنولوجيا وصناعة الإعلام، سيعزز من قوة صحافة الجيل السابع بما يجعل من الصعب على الدول والحكومات السيطرة على وسائل الإعلام كما تفعل الآن. وسيتيح الفرصة للاعبين إعلاميين مجهولين لبث الأخبار. وسيجعل وسائل الإعلام مثل الأشباح، تتحرك بسرعة لا تُصَدَق وتتمتع بقوة أكبر مما تفعله اليوم. يتوقع عبد الظاهر أن تبدأ الثورة الصناعية الخامسة بوتيرة أسرع من الثورات الصناعية السابقة، بحيث يصبح الروبوت تاريخاً، مع غياب تام للحواسب الآلية والهواتف الذكية وإحلالها بشرائح إلكترونية، واختفاء المؤسسات الإعلامية بشكلها التقليدي لتتحول إلى ملايين من المراكز المعلوماتية المنتشرة في كل مكان حول العالم. طرح الكاتب مفاهيم عدة وثيقة الصلة بصحافة الذكاء الاصطناعي، مثل العلاقات العامة التفاعلية الأكثر ذكاءً، وتطرَّق للتسويق الروبوتي، الذي بدأ عالمياً منذ أكثر من خمس سنوات، مع بداية استخدام الشركات العملاقة مثل غوغل، وفيسبوك، وتويتر؛ لتقنيات الذكاء الاصطناعي في الوصول للجمهور المستهدف، وأتمتة المحتوى الإعلاني. وتوقَّع أن يحل التسويق الروبوتي محل التسويق الرقمي، بحيث تعتمد شركات التسويق العملاقة كلياً على أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل الروبوت والطباعة ثلاثية الأبعاد وتحليل البيانات الضخمة، إضافة إلى استخدام الواقع المعزَّز. هكذا لا يحتاج العملاء المحتمَلون إلى التواصل المباشر مع المسوقين، وإنما سيعملون على تجريب السلع عبر محتوى مجسَّم بصورة ثلاثية الأبعاد، يساهم في تعزيز تجربة التعرف على السلع بصورة حيَّة ومباشرة. ودلَّل الكاتب باستخدام الجمهور لهذه التقنيات في مرحلة كوفيد-19، في السياحة عن بُعد، بهدف التعرف على تجارب حقيقية من دول أخرى، للتعايش خلال فترة الإغلاق العام التي مرَّت بها العديد من الدول خلال جائحة كوفيد 19. كذلك رصد أهم أدوات الذكاء الاصطناعي التي أسهمت في مواجهة الفيروس مثل الخوذة الذكية، الروبوتات، طائرات الدرونز وغيرها. وتوقَّع استمرار العالم بعد نهاية كورونا في السير نحو تبني حلول تقنية جديدة، في مجال الرعاية الصحية والتطبيب عن بُعد وزيادة الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي.