أخطر تحول في التاريخ الحديث قال عنه بوتين (أكبر كارثة حلت بروسيا) وقال عنه بايدن (أعظم إنجاز تحقق للسلام العالمي)، ونحن العرب أغلب نخبتنا تقول إن الزعيم الروسي الذي رحل هذا الأسبوع هو من غير وجه العالم بمواجهته الجريئة لمعضلات الاتحاد السوفييتي عام 1989 فابتكر وهو الأمين العام للحزب الشيوعي سياسة (الغلاسنوست) يعني الشفافية و(البيريسترويكا) وهي الحكم الرشيد. كان أول من أطفأ فتيل الحرب الباردة بين العملاقين، وأول من سمح بهدم جدار برلين في نوفمبر 89، وأول من فكك حلف وارسو، وأول من سمح بحرية دول أوروبا الشرقية وانفصالها عن الاتحاد السوفييتي إلى درجة عودة روسيا الامبراطورية بعظمتها إلى المعسكر الليبرالي واعتقد الأمريكان أنهم هزموا روسيا بدون حرب، وأن الولاياتالمتحدة أصبحت القطب الأوحد وأن الرأسمالية هي التي سادت الدنيا وكتب المفكر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) كتابه الشهير (نهاية التاريخ) ولكن تراث ميخائيل غورباتشيف المثير للجدل قابل للتقييمات المختلفة والمتناقضة، وهو الذي قضى على الاتحاد السوفييتي وإن بغير قصد، ما أكسبه احتراماً كبيراً في الغرب، بينما ينظر الروس إليه بمرارة. وأتت وفاته في خضم الهجوم الذي يشنه الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين على أوكرانيا وهو ما يعتبره البعض محاولة جديدة لإحياء الامبراطورية الروسية، ولد ميخائيل غورباتشيف في عائلة مزارعين وسلك مسيرة تقليدية في الحزب الشيوعي قبل أن يصبح في 11 مارس 1985 في سن الرابعة والخمسين زعيما للاتحاد السوفييتي، وكان الاتحاد السوفييتي يومها يعاني من أزمة اقتصادية وغارقاً في حرب طال أمدها في أفغانستان، ففي أقل من ثلاث سنوات بعد وفاة ليونيد بريجنيف في 1982، عرف الحزب الشيوعي السوفييتي أمينين عامين متقدمين في السن هما يوري اندروبوف وقسطنطين تشيرنينكو اللذان توفيا في هذا المنصب. كان غورباتشيف مدركاً أن الأزمة ستتفاقم فأطلق برنامج "بريسترويكا" وسياسة "غلاسنوست" (الشفافية والانفتاح) لإصلاح النظام والحد من نفوذ الحرس القديم في الحزب الشيوعي، فبات ملايين السوفيت يتمتعون بحريات غير مسبوقة، لكنهم عانوا أيضا من نقص في السلع ومن فوضى اقتصادية وحركات قومية قضت على الاتحاد وهو أمر لم يغفره له الكثير من مواطنيه. وقال غورباتشيف لوكالة فرانس برس في يناير 2011: "بطبيعة الحال أنا نادم على أشياء، ارتُكبت أخطاء كبيرة"، فخلال فترة حكمه حصلت تجاوزات فدخلت الدبابات السوفييتية إلى ليتوانيا وقمع المتظاهرون السلميون في جورجيا وفي 1986، وقعت كارثة تشرنوبيل النووية التي بقيت طي الكتمان لمدة أيام ما ساهم في تعريض مئات آلاف الأشخاص لتلوث إشعاعي. في الغرب كان غورباتشيف يثير اهتمام القادة الغربيين من المستشار الألماني هلموت كول إلى الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، بسبب انفتاحه على الحوار، وقالت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر عنه "يعجبني غورباتشيف إنه رجل يمكن التعامل معه". وأظهر الزعيم أنه مختلف عمن سبقوه في هذا المنصب مع إبرامه اتفاقا حول نزع السلاح النووي ورفضه التدخل عسكريا للدفاع عن الستار الحديد وسحبه الجيش الأحمر من أفغانستان، وتعزز احترام الغرب له مع ضبط النفس الذي أبداه عندما انهار جدار برلين والأنظمة الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا. ونال جائزة نوبل للسلام في 1990، ورغم مكوثه في المشفى منذ أكتوبر 2021، أدلى ميخائيل غورباتشوف بعدد من التصريحات في الأشهر الأخيرة معلقا على أبرز القضايا العالمية، بحسب وكالة "نوفوستي" الروسية وآخر تعليق صحفي صدر عنه في يوليو الماضي بعد اغتيال رئيس الوزراء الياباني الأسبق شينزو آبي، حيث قال إنه "مصدوم" بنبأ وفاته، وأعرب عن "خالص التعازي لأسرة الفقيد وشعب وقيادة اليابان". وفي نهاية ديسمبر 2021، قال تعليقا على المحادثات الروسية الأمريكية حول القضايا الأمنية، إنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أخطأت الولاياتالمتحدة واعتبرت ذلك غطرسة، ومن هنا جاءت فكرة توسيع الناتو ونسيان أفكار الأمن الجماعي، لكن لم يفت الأوان بعد للعودة إليها. ورداً على سؤال عما إذا كان من الممكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بناء علاقات مع الولاياتالمتحدة بطريقة مختلفة، دون المساس بسيادة روسيا، أشار إلى أن تفكك الاتحاد السوفييتي أضعف روسيا، "وشهدنا انهيارا للاقتصاد وفوضى"، وأضاف: "مع ذلك، أعتقد أنه لم يفت الأوان بعد للعودة إلى تلك الأفكار. لا أعرف ما إذا كان يحدث ذلك الآن، بعد المفاوضات بين رئيسي روسياوالولاياتالمتحدة، لكن هناك عملية ما بدأت، أنا أؤيد ذلك، وآمل تحقيق نتيجة، بحيث تشعر جميع الدول الأوروبية بالأمان". وفي أغسطس 2021، علق على انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، مشدداً على أهمية استخلاص العبر مما حدث وعدم تكرار مثل هذه الأخطاء ووصف الغزو الأمريكي لأفغانستان بأنه كان "مشروعا فاشلا منذ البداية، رغم أن روسيا أيدته في المرحلة الأولى"، وأضاف: "مثل العديد من المشاريع المماثلة، فقد استند إلى المبالغة في درجة التهديد وإلى مخططات جيوسياسية غامضة، يضاف إلى ذلك محاولات غير واقعية لنشر الديمقراطية في مجتمع متعدد القبائل". وفي يوليو 2021، علق الراحل على المفاوضات الروسية الأمريكية حول الاستقرار الاستراتيجي التي بدأت في ذلك الوقت، معرباً عن أمله في ألا يلجأ أي من الجانبين للمماطلة، وقال: "ثلاثون عاما على (توقيع) START-1 وقال: يمكن تهنئة الجميع به. وفي هذا اليوم أود أن أقول إن الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية يظل الموضوع الأكثر أهمية". ورحب الزعيم السوفييتي السابق ببدء المفاوضات بشأن الاستقرار الاستراتيجي، واعتبر أن الولاياتالمتحدةوروسيا "بحاجة إلى الاتفاق على مستويات أقل من الأسلحة النووية، فعندئذ سيكون من الممكن إشراك الدول الأخرى التي تمتلك أسلحة نووية – الصين وبريطانيا وفرنسا وكوريا الشمالية وغيرها، التقدم معاً نحو الهدف النهائي وهو إزالة الأسلحة النووية". الراحل كان آخر ديناصورات القرن العشرين.. انقرض كما انقرضوا. الشرق القطرية