شكلت الحرب سرديتها الخاصة في عالم الفن السابع، وكثيرا ما حفلت دور العرض السينمائي بأفلام تتناول المعارك الحربية عبر كل مراحل التاريخ الإنساني، لكن الحدث الذي أحرز الحظ الأكبر في هذه الأفلام كان الحرب العالمية الثانية وتحديدا بإنتاجها في الولاياتالمتحدة وأوروبا. ويعزى السبب في هذا إلى أن هذه الدول هي التي انتصرت في حرب دارت على مسارح عمليات شملت العالم كله لأول مرة في تاريخ البشرية خلال فترة استمرت ميدانيا من عام 1939 حتى عام 1945 دون توقف، لكن مدافع وطائرات هذه الحرب ما زالت تقصف في شاشات العرض السينمائي حتى الآن. أطلت ظاهرة سينما الحرب بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، لأن صناعة الفيلم كانت قد تطورت كثيرا، ومع كل تقدم في تقنيات هذه الصناعة كان المجال يتسع أكثر فأكثر لخلق منظور للرؤية البصرية، يجعل تكوين الكادر السينمائي أكثر عمقا وأكثر اتساعا في المشاهد التي تحتاج إليهما المعارك التي تدور في مسرح عمليات يمتد عبر مساحات ضخمة، مع الأخذ في الاعتبار، وهذا هو الأهم التفاعل الحثيث، للمكون الحركي في المعارك التي يدور رحاها سريعا ومتغيرا دون إغفال تحول اتجاهات القوات المتحاربة في كثير من الأحيان. تنوع أنواع اللقطات ساعد علاقة السينما بالحرب بإبراز المشاعر التي تعتمل في نفوس الجنود في لحظات الخطر أو النصر أو النجاة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر اللقطة القريبة (Close Up) وأيضا اللقطة القريبة جدا (Extreme Close up)، ومن المؤكد أن لقطة الستيدكام (Steadicam Shot) بالكاميرا المتوازنة هيدروليكيا أتاحت منذ نهاية السبعينيات إمكانيات فارقة في تصوير نوعية معينة من مشاهد الحرب. كانت أفلام الحرب العالمية الثانية وثيقة الصلة بنوع من النوستالجيا لعشرات الملايين من الذين خاضوها في ميادين القتال ومئات الملايين الذين تأثروا بها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، لذلك كان الجيل المعاصر لهذه الحرب يجد متعة في استعادة وقائعها بعد الانتصار على عنصرية وفاشية النازي، وكانت هذه الأفلام رسالة مباهاة من الذين ربحوا الحرب وتذكرة بالأمجاد والمعاناة للأجيال التالية، وكيف أن أسلافهم أنقذوهم من العنصرية والتمييز. لم يتوقف مفهوم الحرب في السينما عند وقائع لمعارك فعلية، دارت في أماكن وأزمنة مختلفة، بل تم تجاوز هذا النهج إلى طيف جامح من الأعمال يتوهم عوالم صورية خيالية؛ مثل أفلام حرب النجوم التي ابتدع فكرتها باستغلال أدوات تكنولوجيا الصورة غير الثابتة المخرج الأميركي جورج لوكاس، ونالت حظا كبيرا من الذيوع والإيرادات، وبسبب النجاح الطاغي لسلسلة أفلام حرب النجوم غادرت التيمة صالات العرض إلى الدراما والبرامج التلفزيونية وألعاب الكمبيوتر والكتب المصورة، وغيرها من وسائل التسلية، ومن اللافت أن العلامة التجارية لهذه السلسلة صارت واحدة من أغلى العلامات التجارية الإعلامية في العالم بقيمة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. في ظني أن هذه النوعية من الأفلام كانت انعكاسا لحالة عدم اليقين التي تناوش الفرد المعاصر إزاء غموض عالم ما بعد الحداثة، بل وما بعدها أيضا المثقل بالافتراضات والأفكار الفلسفية والممارسات السياسية والاقتصادية المتذبذبة التي أدت إلى تحطيم السرديات الكبرى واهتزاز علاقة الفرد بعالم يموج بالصراعات العبثية.. هنا كان من الضروري أن يجنح الخيال نحو صراع متوهم صراع كوني بعيد عن عالم الكرة الأرضية المسكون بالنزاعات المهدرة للطاقات والجدوى. هذا ما تحمله الدلالات في أفلام حرب النجوم، حيث تسرد الأجزاء الثلاثة الأولى بلغة سنيمائية قصة انهيار الجمهورية القديمة وصعود الإمبراطورية التي تحكم المجرات الفضائية، وفي الأجزاء الأخيرة ذات البراعة التقنية تحتدم الحرب، ويتم إسقاط إمبراطورية المجرات الشريرة وتولد الجمهورية الجديدة.. هذا الكون التخيلي يفتح بابا للخلاص الوهمي في عالم آخر موازٍ بنقل الصراع من الواقع المعيش الكئيب إلى واقع بعيد بكر على شاشات العرض مختلف في طبيعة صراعاته في ظل غموض وجود كائنات أخرى في الكون. من طبيعة النشاط التجاري للمنتج الفني أنه سرعان ما يقفز الباحثون عن الربح بركوب موجة الأعمال الناجحة، وهذا ما تمثل في حالة أفلام سينما الحرب بالزج بالحرب بها كعنصر رئيسي في أفلام العوالم الأسطورية التي يتجاوز فيها القتال والاشتباك كل أشكال العنف والقسوة بدرجة مبالغ فيها والتي يلجأ القائمون عليها في الأغلب إلى قوى الطبيعة غير المرئية بأسلوب من استغلال التقنيات الفائقة لإنتاج مشاهد غرائبية طويلة ومتكررة غير واقعية تمزج الحرب بالخرافة والدجل والسحر. دائما ما تشكل الحرب جزءا من بنية الذاكرة الذاتية للأمم، وبناء على هذا، ففي سينما الحرب العالمية الثانية التي تقدم ذكرها من الملاحظ على سبيل المثال لا الحصر، أن الولاياتالمتحدة اهتمت بإنزال نورماندي والهجوم على بيرل هاربور ومعارك المحيط الهادئ، في حين ركز السوفييت أفلامهم على حصار ليننجراد ومعارك كورسك وموسكو ومعركتهم النهائية في برلين، بينما توجه اكتراث الألمان نحو قصف الحلفاء المتعسف لهامبورج ودريسدن والاغتصاب الجماعي للنساء الألمانيات، وتبدت هموم السينما اليابانية في القصف النووي لهيروشيما وناجازاكي، وفي بولندا كانت الأفلام عن المقاومة البطولية لجنودها في ويستربلات وانتفاضة وارسو. تحظى سينما الحرب بإقبال كل أطياف المشاهدين عليها على اختلاف توجهاتهم ومستوياتهم الاجتماعية، لأن مشاهد العنف والدمار تؤدي إلى التنفيس كما في علم النفس أو التطهر (Catharsis) عند أرسطو في شرحه للدراما، والمقصود هنا هو تفريغ نوازع العنف والانتقام الكامنة داخل في البنية الذهنية والنفسية للإنسان المثقل بالإخفاقات أو الانكسارات أو الهزائم. السؤال المركزي عن سينما الحرب هو عن مدى تطابقها مع وقائع التاريخ التي هي غير مؤكدة وغير محايدة تماما في كثير من جوانبها، ومن هنا فالأفلام بما يعتمل فيها من خيال هي في حقيقتها إعادة إنتاج متوهم عن الحرب بعيدا عن سلامة وقائعها وأسبابها، ومن ثم قد تكون بعض الأفلام في سينما الحرب ذات محصلة مضادة للحقيقة التاريخية سواء عن قصد أو بغير قصد. سكاي نيوز عربية