شكّل تطور وسائل الإعلام في القرن العشرين البيئة الثقافية العالمية فأثار ذلك مناقشة تختلف فيها الآراء، وتتعدد فيها الاتجاهات حول تأثير وسائل الإعلام على الثقافة. من أهم تلك الاتجاهات تحميل وسائل الإعلام المسؤولية عن هبوط مستوى الثقافة وانتشار الثقافة الشعبية وتناقص الاهتمام بالثقافة الرفيعة والتركيز على الدراما القائمة على الجريمة والعنف. لذلك تزايد الاهتمام بالربط بين الاتصال والثقافة ففي كتابه "الاتصال كثقافة" عرف جيمس كاري أستاذ الاتصال بجامعة كولومبيا الاتصال بأنه العملية التي يتم فيها إنتاج الثقافة وتعديلها ونقلها، لذلك فالاتصال له دور كبير وفعال في بناء المجتمع. ولأن وسائل الإعلام أصبحت تسيطر على عملية الاتصال ويعتمد عليها الجمهور في الحصول على المعرفة فإن هذه الوسائل تشكل الثقافة لكن بالرغم من أن هذه المقولة تحمل قدرا من المبالغة الناتجة عن التحيز للثقافة الغربية فإنها تحمل قدرا من الحقيقة التي أصبحت محور اتفاق حيث غيرت وسائل الإعلام الأساليب التي يتصل بها الناس والمجتمعات فأصبحت كل وسيلة تحدد شكل الرسالة ونوعها والرموز التي تستخدم في بنائها كما أصبح التلفزيون هو المصدر الرئيس الذي يحصل منه الناس على الثقافة. ..الموجة الثالثة للحضارة منذ بداية التسعينيات شهد العالم ثورة اتصالية حوّلت المعلومات إلى مصدر للقوة وتطلعت الدول لبناء مجتمعات معلوماتية كأساس للتقدم الاقتصادي لذلك وصف ألفن توفلر -عالم المستقبليات الأميركي- هذا التطور بأنه الموجة الثالثة للحضارة حيث اعتمدت البشرية في الموجة الأولى على الزراعة وفي الموجة الثانية على الإنتاج الصناعي، وفي الموجة الثالثة تم التحول إلى اقتصاد الخدمات الذي يقوم على إنتاج المعلومات وتبادلها. ..ولكن ما تأثير ذلك على الثقافة؟ أدى ذلك إلى ارتفاع أصوات الكثير من العلماء الأميركيين محذرة من خطورة التفكك الثقافي وتدمير الوحدة الثقافية بسبب تناقص التفاعل بين الناس باستخدام الاتصال المباشر والتعرض المكثف لوسائل الإعلام الذي كان من أهم نتائجه تراجع دور الأسرة والأصدقاء والمدرسة في بناء هوية الإنسان وتشكيل ثقافته. ..ثقافة تجارية كما أدى تطور وسائل الإعلام وزيادة حاجتها إلى مضمون يجذب الجماهير إلى الربط بين الثقافة والاقتصاد والاستهلاك حيث قامت شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني بتقديم منتجات ثقافية تهدف إلى جذب المعلنين، ولذلك أصبحت الثقافة تحكمها الإعلانات فأصبح الإعلان يقوم بتشكيل القيم التي تقوم على الاستهلاك والرفاهية والمتعة وقضاء الإجازات والتجميل والتركيز على الجسد وإشباع الرغبات المادية. وهذا الإنتاج الثقافي والفني الذي يروج لهذه القيم يجذب المعلنين حيث يقوم بدور ثقافي في تهيئة البيئة المناسبة للاستهلاك، وهذه الثقافة الاستهلاكية أدت إلى أن يعرف الفرد نفسه بما يملكه ويستهلكه ويحصل بذلك على النفوذ والمكانة الاجتماعية والإحساس بالهوية، كما أدت هذه الثقافة إلى تزايد الفردية. لذلك تعلم المعلنون كيف يخاطبون الناس كأفراد ويستغلون رغباتهم في القبول الاجتماعي لذلك ارتبطت الثقافة بالمادية والتركيز على أهمية الملكية في تحديد قيمة الشخص ومكانته في المجتمع، ثم تطور ذلك إلى دفع الأفراد لامتلاك المنتجات التي تحمل علامات تجارية مشهورة وغالية الثمن للتأكيد على مكانة الشخص ونفوذه. ..لا تكن أنت هكذا أسهمت الإعلانات التجارية في تشكيل الثقافة الحديثة وأثرت على القيم التي تربط المجتمع ودفعت الإنسان لإعادة تعريف نفسه؛ فالرسائل التي تحملها الإعلانات تدفعك لتتغير وتصبح إنسانا مختلفا، فلا تكن أنت، هذه هي الرسالة الدائمة التي تحاول الإعلانات دائما إيصالها، إذ كي تكون مقبولاً فيجب أن تكون رشيقا بجسد مواصفاته ممتازة وقياسية، وأن تكون وسيما طبقا لمعايير الجمال التي حددوها وناجحا دائمًا على كافة الأصعدة، وأن يكون مظهرك جذابا وترتدي دائمًا أغلى وأفضل الثياب. الإعلانات تدفعك للشعور اللاإرادي بأنك ستكون فقط سعيدًا عندما تشتري وتتسوق وتمتلك المنتجات الفاخرة التي تقدمها لك الشركات ذات العلامات التجارية المتميزة. القنوات التلفزيونية أصبحت تحاصرك دائما برسائل تدفعك بكل الوسائل الممكنة للبحث عن وسيلة للحصول على الشهرة واعتبارها هي الشيء الذي سيجلب لك السعادة والأهمية، تلك التي تعني اعتراف الجميع بأهميتك وتميزك ونجاحك. وبالتالي تتشكل لك هوية لا علاقة لها بقيم مجتمعك وتجربته التاريخية وأهدافه العليا فطبقا للثقافة الاستهلاكية التي تروجها وسائل الإعلام أنت تستطيع أن تصنع هويتك وصورتك الذهنية ونجاحك بصرف النظر عن مجتمعك وتستطيع أن تغير نفسك وواقعك فتكون مختلفا وسيلجأ المجتمع إلى تقليدك عندما تكون ناجحا ومشهورا وغنيا. ظهورك في وسائل الإعلام هو طريقك للشهرة والنجاح والسلطة، وفي ضوء ذلك نكتشف كيف أثرت الثقافة الاستهلاكية المادية الفردية على هوية المجتمعات وعلى العلاقة بين الأفراد حتى داخل الأسرة الواحدة. ..هل تريد أن تكون نجما؟ كشفت الدراسات الثقافية التي اهتمت بتأثير وسائل الإعلام أن الإنتاج الثقافي يمجد الأبطال ويعطيهم قدرًا كبيرًا في المجتمع وهذا يجعل جميع الناس تسعى لتلك البطولة.. ولكن ما مواصفات البطولة التي تستحق الاحتفاء بها؟ إن كل الثقافات طوال التاريخ تمجد البطولة وتنظر للأبطال بإعجاب، لكن تقييم المجتمعات للأبطال يتم باستخدام منظومة من القيم والمبادئ والأهداف والمعايير الثقافية والعلمية. لكن قنوات التلفزيون قدمت نوعية من الأبطال بمقاييس تجارية مادية مثل لاعبي الكرة ونجوم الأفلام والمسلسلات، لذلك شكلت وسائل الإعلام نظام النجوم، حيث يتم تحقيق الشهرة لأشخاص عن طريق الحملات الإعلامية والإعلانية وأصبح هؤلاء النجوم ملكية خاصة للشركات التي حققت لهم الشهرة. ..ثقافة صناعة النجوم أصبحت صناعة النجوم جزءا من الصناعات الثقافية والإعلامية والإعلانية وأدى ذلك إلى عدم تقديم الكثير من المثقفين والفنانين الحقيقيين للمجتمع لأنهم يفتقدون شروط نظام النجومية أو يرفضون الخضوع لهذا النظام وأدى ذلك إلى إضاعة الكثير من الإنتاج الثقافي الذي لا يستجيب لمتطلبات الثقافة الاستهلاكية المادية وشروطها. وباستخدام النجوم تقوم شركات الإنتاج بتشكيل الثقافة المرئية التي يتحرك فيها الأبطال أمام الجمهور، فيتلهف الناس إلى تقليدهم في أسلوب حديثهم وطعامهم وملبسهم وسلوكهم. ..ثقافة ما بعد الحداثة لقد أصبحت الثقافة الاستهلاكية التجارية تشكل الأساس لثقافة "ما بعد الحداثة" التي تقوم على النسبية والتي يصفها فردريك جامسون بأنها تشكل مرحلة نهاية الرأسمالية حيث تتحكم الشركات عابرة القارات في إنتاج التسلية والمعلومات وتقوم بإنتاجها. لقد كان التلفزيون هو الوسيلة الإعلامية التي تم استخدامها لنشر ثقافة "ما بعد الحداثة" القائمة على ثقافة الصورة والاستعراضات المسلية، لكن شبكة الإنترنت أصبحت منافسا قويا للتلفزيون في نشر تلك الثقافة. ..عملية تغيير ثقافي بالرغم من أهمية دراسة التأثير الثقافي لوسائل الإعلام خاصة التلفزيون خلال القرن العشرين فإن هناك مؤشرات على أن العالم يتجه نحو عملية تغيير ثقافي واجتماعي من أهم تجلياتها البحث عن أفكار جديدة تختلف عن تلك التي سادت خلال القرون السابقة، فهناك الكثير من نذر الخطر لا بد أن ندرسها بعمق لأنها تهدد صناعة الإعلام والثقافة والتسلية. من أهم تلك المؤشرات أن حاجة الناس تشتد إلى بديل وإلى ثقافة يجدون فيها أنفسهم بدلا من إجبارهم على التغيير طبقا للشروط التجارية، وإلى أبطال حقيقيين يعملون ويضحون من أجل المبادئ والقيم ولا يتم تصنيعهم طبقا لنظام النجومية في الشركات عابرة القارات. ..ثورة ضد الوضع الراهن من أخطر الأدوار التي قامت بها شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني أنها دفعت الناس للخضوع للوضع الراهن والعمل لتحقيق النجاح داخله، فالإنسان يجب أن يكدح ويجتهد ويعمل للحصول على المال طبقا للشروط الرأسمالية. لكن أغلبية البشرية فشلت في تحقيق النجاح أو حتى ضرورات الحياة داخل ذلك الواقع، لذلك شعر الكثير من الناس بالعجز والفشل، وفقد الفرد معنى الحياة كما أصاب الكثير من الناس الاكتئاب والإحباط وكراهية الذات والبؤس والفقر. ولأن وسائل الإعلام تعتبر الثورة على الوضع القائم انحرافا وجريمة وخروجا على النظام والقانون يستحق الإدانة والعقوبة فقد أصبح الناس يشعرون أنهم منحرفون بمقاييس النظم الحاكمة وطبقا لشروط الثقافة الرأسمالية التجارية الاستهلاكية ويتمنون انهيار الوضع القائم حتى وإن لم يستطيعوا الثورة ضده. لذلك تتشكل ثقافة الثورة خارج إطار الوسائل الإعلامية التجارية والوسائل التي تسيطر عليها السلطات وهذه الثقافة تشمل كراهية الوضع الراهن ورفضه والانحراف عن قوانينه وأحكامه والبحث عن وسائل جديدة للتعبير عن تلك الثقافة الجديدة. ..تراث العنف وتدمير الواقع لكن ثقافة الثورة على الوضع الراهن تستمد من تراث العنف الذي قدمته شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني الكثير من الوسائل والأساليب لتدمير الواقع الذي يعيشون في ظله حالة البؤس والفقر والشقاء. فهل دفعت الشركات عابرة القارات -باستخدامها المبالغ فيه لوسائل الإعلام في نشر الثقافة الاستهلاكية- العالم لإنتاج ثقافة ثورة عالمية جديدة تكون أساسا لبناء عالم جديد يقوم على مبادئ وقيم، من أهمها رفض الشروط الرأسمالية والتجارية والتعامل مع الإنسان بمقاييس مادية؟! هذه الثورة يمكن أن تقوم بإنتاج ثقافة اعلامية جديدة يتم على أساسها بناء نظم إعلامية تفتح المجال للتعبير عن ثقافة الثورة والتغيير وتتيح لحضارات جديدة أن تتقدم لتصلح ما أفسدته الثقافة الغربية الرأسمالية. الحضارة الإسلامية يمكن أن تقود عملية التغيير الثقافي بإعلاء كرامة الإنسان وتقييمه على أسس غير مادية وهذا يمكن أن يفسر هجوم وسائل الإعلام الغربية على الإسلام ونشر الإسلاموفوبيا وحرمان الشعوب من حقها في معرفة الإسلام الذي يمكن أن يبني عالما جديدا يجد فيه الإنسان معنى لحياته. لقد أصبح العالم يحتاج لثورة إعلامية وثقافية جديدة تعيد للإنسان احترامه وتقديره لنفسه، والإسلام هو الذي يمكن أن يقود هذه الثورة خلال هذا العقد. الجزيرة نت