يمكن النظر إلى النقاشات العالمية حول تغير أبنية المجتمعات الغربية المعاصرة وتحولات منظومات القيم المشكلة لأنماط التفاعلات الإنسانية بها وعلاقتها بظاهرتي التطرف والإرهاب في إطارين متقابلين. في حين يرتبط الأول بتطورات الواقع الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي في الغرب الأمريكي والأوروبي، يتعلق الثاني بصيرورة إدراك المواطن-الفرد لها. وإذا ما استثنينا العقود الثلاثة الماضية فإن جل اهتمام العلم الاجتماعي الحديث، وأعني هنا بالأساس دراسات علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة، قد انصب على محاولة سبر أغوار السياق الأول وإضفاء الطابع الموضوعي أو على الأقل مسحة منه على شروح العلماء للمحطات الكبرى في تاريخ المجتمعات الغربية المنتقلة إما من «الجماعة البسيطة» إلى «المجتمع المركب» المتزايدة درجة تعقد بناه باستمرار أو من مراحل العبودية والإقطاع إلى مرحلة التصنيع والتوسع الرأسمالي. وتبلورت في هذا الإطار العديد من الأنساق النظرية-التفسيرية ذات الصبغة الوظيفية مثل مقولات التحديث أو المقولات الماركسية من شاكلة أفكار صراع الطبقات وجدلية البناء التحتي-الفوقي التي ادعت القدرة على صياغة فهم شامل لوقائع الحياة في المجتمعات الغربية بما فيها ظواهر التطرف والإرهاب والعنف، بل والتنبؤ على أسس علمية بمساراتها في المستقبل. اكتسى العلم الاجتماعي حتى سبعينيات القرن العشرين إذن برداء الموضوعية ونظر لمقولاته الكبرى عن المجتمعات الغربية على أنها تجسيد لحقائق قائمة بالفعل أو آتية لا محالة. أما سياق الإدراك وعوالمه شديدة الذاتية فقد تم تجاهله في معظم الأحيان أو اعتباره فيما ندر من الدراسات مجرد تابع للسياق الأول، وكأن دور العالم-المفكر ينحصر فقط في الانتقال برؤاه وتحليلاته من مرحلة إلى أخرى وفقاً لتحولات الزمن الفعلية. واقترنت هذه النظرة، خاصة في الفكر الغربي المعاصر، من جهة ببحث دؤوب عن لحظات في التاريخ يضفي عليها رمزية الانقطاعات الكبرى التي يستحيل ما بعدها أو «الجديد» على علاقة تضاد مطلق مع ما سبقها أو «القديم» ومن جهة أخرى بما يمكن أن يطلق عليه «الذهنية التطورية» التي رتبت في سياق الإيمان بحركة البشرية الخطية نحو الكمال والارتقاء الحكم المسبق على «الجديد» وبغض النظر عن كينونته بأنه «الأفضل» والسعي إلى عولمته بمعنى فرضه على المجتمعات غير الغربية. والحقيقة أن مفاهيم مثل التقدم في مواجهة التخلف والعقلانية في مواجهة اللاعقلانية والأمن والسلام في مقابل التطرف والإرهاب والعنف قد اكتسبت أهميتها المحورية في تفسير حركة التاريخ لكونها أضفت مضامين (شبه دينية) على «الجديد» وعبرت عن ترجمة قيمية لجوهري الكمال والارتقاء. وكان من الطبيعي أن يرتب التحيز البنيوي «للواقع» على حساب «الإدراك» هيمنة للعوامل المادية المرتبطة بالاجتماع والاقتصاد والسياسة وتهميش لوزن العوامل الثقافية-القيمية في تفسير تحولات المجتمعات الغربية. وربما كانت مقولات مدرسة التحديث الأمريكية كما عبرت عنها كتابات عالم الاجتماع تالكوت بارسونز في أعقاب الحرب العالمية الثانية هي الأوضح في هذا الصدد. بدأت أركان هذه الصورة الحداثية الكلاسيكية في الاهتزاز بشدة مع بدايات الثلث الأخير من القرن المنصرم وجاء ذلك على وقع عدد من التغيرات الرئيسية والظواهر الجديدة التي لم تتمكن الإطارات النظرية التقليدية بشقيها الوظيفي والماركسي من تقديم تفسيرات مقنعة لها. فقد مثلت حقيقة وصول نمط التقدم الغربي (الرأسمالي والاشتراكي) إلى حدود بدت قصوى وتبدت جلية في كوارث تكنولوجية من شاكلة انفجار مفاعل تشيرنوبيل وأزمات اقتصادية واجتماعية حادة لدولة الرفاهة في الشمال المتقدم كان أهمها تراجع معدلات النمو وتزايد نسبة البطالة وتصاعد تيارات العنف السياسي والعنصري فضلاً عن مشكلة التهديد الإيكولوجي للوجود الإنساني إشارات تحذير واضحة بدأت معها النخب السياسية والثقافية في الغرب ، في التفكير في استراتيجيات جديدة لإدارة مجتمعاتها ركزت بالأساس على مواجهة تراجع معدلات الأمن والاستقرار المجتمعي وانتشار العنف والتعامل مع الأبعاد القيمية للتطور البشري. من جهة ثانية، شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين تراجعاً عالمياً لدور الدولة القومية سواء على أرضية صراعات عرقية ومذهبية أو في سياق فشل عمليات التحديث الدولانية في العديد من البلدان غير الغربية وهو الأمر الذي رتب بروز قوى سياسية ودينية معارضة مارست عنفاً وشكلت تهديداً مباشراً لموقع الدولة القومية وهويتها وأنتجت عملية إحياء شاملة لرؤى تقليدية حول المجتمع والسياسة رفضت الحداثة العلمانية المحيدة في تصوراتها للعنصر الثقافي-القيمي والتي لم تعد قادرة على طرح صيغ مقنعة للتعاطي مع تحديات العصر. ثم شكل السقوط المدوي لدول المعسكر الاشتراكي جزئياً في إطار حركات احتجاج شعبية عنيفة عاملاً إضافياً في بلورة حالة عالمية من «القلق الوجودي» تواكبت مع إجهاز عمليات العولمة على قناعة وجود حدود فاصلة بين المجتمعات. فرضت حقيقة أن ظواهر من شاكلة ثقب الأوزون ومرض الإيدز وأخطار التكنولوجيا النووية والبطالة والفقر والعنف جميعها ليست قاصرة على شعوب أو مناطق بعينها بل تمتد إلى كل أرجاء المعمورة بحثاً متصاعداً من جانب العلم الاجتماعي للتوصل إلى أنساق بديلة قادرة على التعامل مع التغيرات سالفة الذكر لم يقف فقط عند محاولة نقد المقولات الحداثية الكبرى المتمثلة في التقدم والعلمانية والأمن. خلال العقدين الماضيين، رتبت بيئة المخاطر وظواهر العنف والتطرف والإرهاب المحيطة بالمجتمعات الغربية صعود حركات وأحزاب اليمين الشعبوي والسياسيين المنتمين إليها في الولاياتالمتحدة وأوروبا. فمن جهة، تشترك أحزاب اليمين المتطرف في إطلاقها للاتهامات بالجمود والفساد والابتعاد عن الناخبين باتجاه أحزاب اليمين واليسار التقليدية. ويعبر اليمينيون المتطرفون هنا، عن انطباعات سائدة بين قطاعات شعبية واسعة لم تعد تتحمل إن جمود برامج أحزاب يمين ويسار الوسط في الغرب ورفضهم للتغيير أو فضائح الفساد التي ضربت النخب السياسية التقليدية الإيطالية. يوظف اليمين المتطرف اتهاماته للأحزاب التقليدية لكي يجتذب تأييد ناخبين بين الطبقات العاملة والفئات محدودة الدخل والتعليم من البيض سئموا رؤية ذات الوجوه في مقاعد الحكم والمعارضة ويبحثون عن وجوه جديدة تتحدث بلغتهم وتستخدم مفرداتهم عند المطالبة بإيقاف تدفق الأجانب واللاجئين أو الحد من تدخل الحكومات في السياسات الاقتصادية والمالية وسياسات العمل. هكذا جاء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. يكتسب اليمينيون المتطرفون طابعهم الشعبوي من خلال انتقاداتهم المستمرة (بل وعدائهم الصريح) للنخب ويبدون بمظهر السياسيين القريبين من هموم ومطالب العمال ومحدودي الدخل من «السكان الأصليين». تتشابه أحزاب اليمين المتطرف في تبنيها لخطاب سياسي يوظف المقولات القومية لصياغة رفض صريح لوجود الأجانب واللاجئين من غير البيض. العنصريون في الغرب يتقربون من المشاعر الوطنية للبيض الخائفين على ضياع «الهوية الأصلية» للمجتمعات الغربية ويستخدم خوفهم لاجتذاب التأييد لبرامج سياسية تدعو إلى إغلاق أبواب بلادهم في وجه الأجانب واللاجئين. بإغلاق أبواب الغرب في وجه الأجانب واللاجئين، يسجل اليمين المتطرف خروجه على توافق الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار الرافض لعزل الغرب عن العالم. تظهر استطلاعات الرأي العام وكذلك دراسات تفضيلات الناخبين وسلوكهم التصويتي أن القواعد الناخبة لليمين المتطرف في الغرب لم تعد ترى لا السياسة ولا المؤسسات الديمقراطية كمجال للصراع السلمي بين اليمين واليسار حول قضايا مثل النظم الضريبية وسياسات العمل والأجور وإعانات البطالة والعجز والرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية. جل ما يراه ناخبو اليمين المتطرف في السياسة هو صراع ثقافي بين دعاة فتح أبواب الغرب للأجانب واللاجئين وبين المطالبين بإغلاق الأبواب، بين دعاة تبني قيم عصرية تحض على الحرية والمساواة وقبول الآخر وبين الباحثين عن إنقاذ ما يرونه الهوية الأصلية والمتمسكين بفهم تقليدي للقيم الدينية المسيحية ، صراع ثقافي بين دعاة الانصهار في مجتمعات غربية تذوب بها القوميات واللغات ويتضامن بها الأغنياء مع الفقراء وبين القوميين المدافعين عن المشاعر الوطنية والمطالبين بالحفاظ على النقاء العرقي للبيض في الغرب. تفسر حقيقة أن ناخبي اليمين المتطرف يرون السياسة كمجال لصراع ثقافي يؤيدون به من يرفع لافتات إغلاق الأبواب والدفاع عن النقاء العرقي والهوية الأصلية للمجتمعات الغربية، تفسر هذه الحقيقة محدودية اهتمام ناخبي اليمين المتطرف بالبرامج السياسية للحركات والأحزاب التي تمثلهم. فالتورط في الصراع الثقافي لا يستدعي صياغة برامج سياسات محددة بشأن الضرائب وسوق العمل والرعاية الاجتماعية، ولا يستلزم التميز في الأطروحات الانتخابية عن المقولات البسيطة التي يتداولها الناس حول وجود الأجانب واللاجئين. المطلوب فقط هو رفع اللافتات المناسبة والقرع المستمر لطبول جمود وفساد النخب التقليدية، والخوف من الغرباء على الهويات الأصلية والقيم التقليدية. وعلى هوامش اليمين الشعبوي، تتزايد جرائم مجموعات العنف والتطرف والإرهاب من العنصريين وكارهي الأجانب في الولاياتالمتحدة وأوروبا. لا تختلف، إذا، الملامح العامة للمشهد السياسي الأمريكي عن ملامح المشهد الأوروبي. فصعود اليمين المتطرف بشعارات عنصرية وشعبوية وبخطاب كراهية ضد الأجانب ومواقف رافضة للهجرة واللجوء يجمع كل مجتمعات الغرب. كذلك، لا يجافي الصواب الدفع بتشابه موجة اليمين المتطرف الراهنة في أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية مع موجة الفاشية التي اجتاحت الحواضر الغربية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ورتبت صراعات سياسية حادة وحروبا أهلية دامية وحربا عالمية شهدت غير المسبوق من الفظائع. القدس العربي